فلمّا وصلت مَلكة سبأ إلى ذلك المكان ( قيل لها أدخلي الصرح ){[2997]} فلما رأته ظنته نهراً جارياً فرفعت ثوبها لتمر وسط الماء وهي متعجبة عن سبب وجود هذا الماء الجاري ،وكما يقول القرآن: ( فلما رأته حسبته لجةً وكشفت عن ساقيها ){[2998]} .
إلاّ أنّ سليمان( عليه السلام ) التفت إليها وقال: ( إنّه صرح ممرد من قوارير ){[2999]} .فلا حاجة إلى الكشف عن ساقيك فلا يمس الماء قدميك .
وهنا ينقدح سؤال هام ،وهو أن سليمان نبيّ كبير ،فلم كان لديه هذا البناء الفائق والتزيّن الرائق ...والصرح الممرد والبساط الممهّد !..وصحيح أنّه كان حاكماً مبسوط اليد ،إلاّ أن الأنسب أن يكون له بساط مألوف كسائر الأنبياء .
إلاّ أنّه ،ما يمنع أن يُري سليمان مَلكة سبأ التي كانت ترى قدرتها وعظمتها بالعرش والتاج والقصر العظيم والزينة ..يريها هذا المشهد لتذعن لأمره ،ولتحتقر ما عندها ؟!وهذه نقطة انعطاف في حياتها لتعيد النظر في ميزان القيم ومعيار الشخصية !
ما يمنعهبدلاً من أن يغير جيشاً لجباً فيسفك الدماءأن يجعل فكر ملكة سبأ حائراً مبهوتاً بحيث لم تكن تتوقع ذلك أصلا ...خاصة أنّها كانت امرأة تهتم بهذه الاُمور والتشريفات !.
ولاسيما أنّ أغلب المفسّرين صرحوا بأن سليمان أمر أن يبنى مثل هذا الصرح والقصر قبل أن تصل ملكة سبأ إلى الشام ،وكان هدفه أن يُريها قدرته لتذعن لأمره وتسلم له ...وهذا الأمر يدلّ على أن سليمان( عليه السلام ) كان يتمتع في سلطانه بقدرة عظيمة من حيث القوّة الظاهرية وُفق بها للقيام بمثل هذا العمل !.
وبتعبير آخر: إنّ هذه النفقات المالية إزاء أمن منطقة واسعة ،وقبول دين الحق ،والوقاية عن الإنفاق المفرط للحربلم تكن أمراً مسرفاً .
ولذلك حين رأت مَلكة سبأ هذا المشهد الرائع ( قالت ربّ إنّي ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله ربّ العالمين ) .
لقد كنت في ما مضى أسجد للشمس وأعبد الأصنام ،وكنت غارقة في الزينة والتجميل ،وكنت أتصور أنّي أعلى الناس في الدنيا .
أمّا الآن فإنّني أفهم أنّني ضعيفة جدّاً وهذه الزخارف والزبارج لا تروي ظمأ الإنسان ولا تبلّ غليل روحه !.
ربّاه ...أتيت إليك مسلمة مع سليمان نادمة عن سالف عمري ،خاضعة عنقي إليك .الطريف هنا أنّها تقول: أسلمت مع سليمان ،فتستعمل كلمة ( مع ) ليتجلّى أن الجميع إخوة في السبيل إلى الله !لا كما يعتاده الجبابرة إذ يتسلط بعضهم على رقاب بعض ،وترى جماعة أسيرة في قبضة آخر .
فهنا لا يوجد غالب ومغلوب ،بل الجميعبعد قبول الحقفي صف واحد !.
صحيح أن ملكة سبأ كانت قد أعلنت إيمانها قبل ذلك أيضاً ،لأنّنا سمعنا عن لسانها في الآيات آنفة الذكر ( وأوتينا العلم من قبلها وكنّا مسلمين ) .
إلاّ أن إسلام الملكة هنا وصل إلى أوجه ،لذلك أكّدت إسلامها مرّة أُخرى .
إنها رأت دلائل متعددة على حقانية دعوة سليمان .
فمجيء الهدهد بتلك الحالة الخاصّة !
وعدم قبول سليمان الهدية الثمينة المرسلة من قبلها .
وإحضار عرشها في فترة قصيرة من مدى بعيد .
وأخيراً مشاهدة قدرة سليمان الاعجازية ،وما لمسته فيه من أخلاق دمثة لا تشبه أخلاق الملوك !
/خ44