بين الله من بعد ذلك على لسان سليمان ما يرغب أمثالها من النساء ، وهو أن الملك يملك من زخارف الحياة ما ليس عندها ، وما يبتهر فقال:
{ قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( 44 )} .
الصرح ، القصر العالي المزخرف ، ودخلت الصرح ، فدخلت صحنه ، وهو ممرد أي مملس ملمسه ناعم وله بريق بسبب تمريده ، وإزالة كل خشونة فيه حتى يحسبه الرائي لتنسيقه ، وكأنه لجة من الماء ، فحسبته ماء في صحن الصرح وخشيت على ثيابها المزخرفة فرفعتها ، وكشفت عن سياقها ، فنبهها سليمان إلى أنه ليس بماء وإنما هو صرح ممرد من زجاج يبدو بادئ الرأي كأنه لجة ماء وما هو بماء ، فقال لها:إنه صرح ممرد من قوارير ، أي من زجاج تكون منه القوارير ، وهي جمع قارورة .
أدركت السيدة بلقيس ، وهي تروعها الزخارف كما تروع كل النساء ، فكرت في ماضيها إذ كانت تعبد الشمس ، وسليمان يعبد الله تعالى ، وقد آتاه الله من النعم ما لا يمكن أن يكون لأحد غيره ، فاهتزت ، وعلمت أنها كانت على باطل .
وأنها ظلمت نفسها بما كانت عليه ، قالت:{ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، أقرت بأنها ظلمت نفسها بعبادتها الشمس ، فالشرك ظلم للنفس وطمس للقلب ، وأي طمس للعقل أكبر من أن يعبد الشمس . وهي مخلوقة لله تعالى ، ويترك الخالق وهو الله سبحانه وتعالى ونادت الله تعالى بلفظ الرب إيمانا بالربوبية الكاملة . وأكدت ظلمها للنفس بإن الدالة على التأكيد ، وجعل الظلم واقعا على نفسها ، وإذا كانت قد علمت أن الشرك ظلم عظيم للنفس ، فقد خلصت لله تعالى ، ولذا قالت:{ وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، أي سلمت نفسي مع سليمان لله رب العالمين ، وذكر معيتها مع سليمان ، لأنه هو الذي دعاها وأرشدها ، وذكر الله تعالى موصوفا بأنه رب العالمين ، أي الخالق القائم على العالمين بالتدبير الحكيم .