ارتقى الاستدلال من التذكير بالتصرف الرباني في ذوات المخلوقات إلى التذكير بتصرفه في أحوال الناس التي لا يخلو عنها أحد في بعض شؤون الحياة وذلك حال الاضطرار إلى تحصيل الخير ،وحال انتياب السوء ،وحال التصرف في الأرض ومنافعها .فهذه ثلاثة الأنواع لأحوال البشر .وهي: حالة الاحتياج ،وحالة البؤس ،وحالة الانتفاع .
فالأولى: هي المضمنة في قوله{ أمن يجيب المضطر إذا دعاه} فالمضطر هو ذو الضرورة أي الحالة المحوجة إلى الأشياء العسرة الحصول ،وهذه مرتبة الحاجيات فالمرء محتاج إلى أمور كثيرة بها قوام أوده ليست متصلة بذاته مثل الأقوات والنكاح والملابس اللازمة فالمرء يتطلبها بوجوه من المعاوضات ،وقد يتعسر بعضها وهي تتعسر بقدر وفرة منافعها وعزة حصولها فيسأل الله أن يعطيها .
والاضطرار: افتعال من الضرورة لا من الضر .وتقديره: أنه نالته الضرورة فطاوعها .وليس له فعل مجرد وإنما يقال: اضطره كذا إلى كذا .
واللام في{ المضطر} لتعريف الجنس المسمى بلام العهد الذهني ،أي يجيب فرداً معهوداً في الذهن بحالة الاضطرار .
والإجابة: إعطاء الأمر المسؤول .والمعنى: أن المضطر إذا دعا لتحصيل ما اضطر إليه فإنه لا يجيبه إلا الله بقطع النظر عن كونه يجيب بعضاً ويؤخر بعضاً .
وحالة البؤس: هي المشار إليها بقوله{ ويكشف السوء .
والكشف: أصله رفع الغشاء ،فشبه السوء الذي يعتري المضرور بغشاء يحول دون المرء ودون الاهتداء إلى الخلاص تشبيه معقول بمحسوس .
وَرُمز إلى المشبه به بالكشف الذي هو من روادف الغشاء .وهو أيضاً مستعار للإزالة بقرينة تعديته إلى السوء .والمعنى: من يزيل السوء .وهذه مرتبة الضروري فإن معظمها أو جميعها حفظ من تطرق السوء إلى مهم أحوال الناس مثل الكليات وهي: حفظ الدين ،والنفس ،والعقل ،والنسب ،والمال ،والعرض .
والمعنى: إن الله يكشف السوء عن المسوء إذا دعاه أيضاً فحذف من الجملة المعطوفة لدلالة ما ذكر مع الجملة المعطوف عليها ،أي يكشف السوء عن المستاء إذا دعاه .
وظاهر التقييد بالظرف يقتضي ضمان الإجابة .والواقع أن الإجابة منوطة بإرادة الله تعالى بحسب ما يقتضيه حال الداعي وما يقتضيه معارضه من أصول أخرى ،والله أعلم بذلك .
وحالة الانتفاع: هي المشار إليها بقوله{ ويجعلكم خلفاء الأرض} أي يجعلكم تعمرون الأرض وتجتنون منافعها ،فضمن الخلفاء معنى المالكين فأضيف إلى الأرض على تقدير: مالكين لها ،والملك يستلزم الانتفاع بما ينتفع به منها .وأفاد خلفاء بطريق الإلتزام معنى الوراثة لمن سبق ،فكل حي هو خلف عن سلفه .والأمة خلف عن أمة كانت قبلها جيلاً بعد جيل .وهذا كقوله تعالى حكاية لقول نوح{ هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها}[ هود: 61] .وهذه مرتبة التحسيني .
وقد جمعت الآية الإشارة إلى مراتب المناسب وهو ما يجلب نفعاً أو يدفع ضرراً وهو من مسالك العلة في أصول الفقه .
ولما اقتضته الخلافة من تجدد الأبناء عقب الآباء والأجيال بعد الأجيال ،وما اقتضته الاستجابة وكشف السوء من كثرة الداعين والمستائين عبر في أفعال الجعل التي تعلقت بها بصيغة المضارع الدال على التجدد بخلاف أفعال الجعل الأربعة التي في الآية قبلها .
ثم استؤنف عقب هذا الاستدلال باستفهام إنكاري تكريراً لما تقدم عقب الأدلة السابقة زيادة في تعداد خطئهم بقوله{ أإله مع الله قليلاً ما تذكرون} .
وانتصب{ قليلاً} على الحال من ضمير الخطاب في قوله{ ويجعلكم خلفاء الأرض} أي فعل ذلك لكم وأنتم في حال قلة تذكركم ،فتفيد الحال معنى التعجب من حالهم .
والتذكر: من الذُّكر بضم الذال وهو ضد النسيان فهو استحضار المعلوم ،أي قليلاً استحضاركم الافتقار إلى الله وما أنتم فيه من إنعامه فتهتدوا بأنه الحقيق بأن لا تشركوا معه غيره .فالمقصود من التذكر التذكر المفيد استدلالاً .و{ ما} مصدرية والمصدر هو فاعل{ قليلاً .
والقليل هنا مكنّى به عن المعدوم لأن التذكر المقصود معدوم منهم ،والكناية بالقليل عن المعدوم مستعملة في كلامهم .وهذه الكناية تلميح وتعريض ،أي إن كنتم تذكرون فإن تذكركم قليل .
وأصل{ تذكرون} تتذكرون فأدغمت تاء التفعل في الذال لتقارب مخرجيهما تخفيفاً وهو إدغام سماعي .
وقرأ الجمهور{ تذكرون} بتاء الخطاب .وقرأه روح عن أبي عمرو وهشام عن ابن عامر بياء الغيبة على الالتفات من الخطاب إلى الغيبة ،ففي قراءة الجمهور نكتة توجيه الخطاب إلى المشركين مكافحة لهم ،وفي قراءة روح وهشام نكتة الإعراض عنهم لأنهم استأهلوا الإعراض بعد تذكرهم .