يجري هذا الكلام على الوجهين المذكورين في قوله{ وإن تكذبوا}[ العنكبوت: 18] .ويترجح أن هذا مسوق من جانب الله تعالى إلى المشركين بأن الجمهور قرأوا{ أو لم يروا} بياء الغيبة ولم يجر مثل قوله{ وإن تكذبوا فقد كذب أمم من قبلكم}[ العنكبوت: 18] .ومناسبة التعرض لهذا هو ما جرى من الإشارة إلى البعث في قوله{ وإليه ترجعون}[ العنكبوت: 17] تنظيراً لحال مشركي العرب بحال قوم إبراهيم .
وقرأ الجمهور{ أو لم يروا} بياء الغائب والضمير عائد إلى{ الذين كفروا}[ العنكبوت: 12] في قوله{ وقال الذين كفروا للذين ءامنوا}[ العنكبوت: 12] ،أو إلى معلوم من سياق الكلام .وعلى وجه أن يكون قوله{ وإن تكذبوا}[ العنكبوت: 18] الخ خارجاً عن مقالة إبراهيم يكون ضمير الغائب في{ أو لم يروا} التفاتاً .والالتفات من الخطاب إلى الغيبة لنكتة إبعادهم عن شرف الحضور بعد الإخبار عنهم بأنهم مُكذبون .
وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم وخلف{ أو لم تروا} بالفوقية على طريقة{ وإن تُكذبوا}[ العنكبوت: 18] على الوجهين المذكورين .
والهمزة للاستفهام الإنكاري عن عدم الرؤية ،نزلوا منزلة من لم ير فأنكر عليهم .
والرؤية يجوز أن تكون بصرية{[309]} ،والاستدلال بما هو مشاهد من تجدد المخلوقات في كل حين بالولادة وبروز النبات دليل واضح لكل ذي بصر .
وإبداء الخلق: بَدْؤُه وإيجاده بعد أن لم يكن موجوداً .يقال: أبدأ بهمزة في أوله وبدأ بدونها وقد وردا معاً في هذه الآية إذ قال{ كيف يُبدىء الله الخلق} ثم قال{ فانظروا كيف بدأ الخلق}[ العنكبوت: 20] ولم يجىء في أسمائه تعالى إلا المُبْدِىء دون البادىء .
وأحسب أنه لا يقال ( أبدأ ) بهمز في أوله إلا إذا كان معطوفاً عليه ( يُعيد ) ولم أر من قيده بهذا .
و{ الخلق}: مصدر بمعنى المفعول ،أي المخلوق كقوله تعالى{ هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه}[ لقمان: 11] .
وجيء{ يبدىء} بصيغة المضارع لإفادة تجدد بدء الخلق كلما وجه الناظر بصره في المخلوقات ،والجملة انتهت بقوله{ يبدىء الله الخلق} .وأما جملة{ ثم يعيده} فهي مستأنفة ابتدائية فليست معمولة لفعل{ يروا} لأن إعادة الخلق بعد انعدامه ليست مرئية لهم ولا هم يظنونها فتعين أن تكون جملة{ ثم يعيده} مستقلة معترضة بين جملة{ أو لم يروا} وجملة{ قل سيروا في الأرض} .و{ ثم} للتراخي الرتبي لأن أمر إعادة الخلق أهمّ وأرفع رتبة من بدئه لأنه غير مشاهد ولأنهم ينكرونه ولا ينكرون بدء الخلق قال في « الكشاف »: هو كقولك: ما زلت أوثر فلاناً وأستخلفه على من أخلِّفه » يعني فجملة: وأستخلفه ،ليست معطوفة على جملة: أوثر ،ولا داخلة في خبر: ما زلت ،لأنك تقوله قبل أن تستخلفه فضلاً عن تكرر الاستخلاف منك .هذه طريقة « الكشاف » وهو يجعل موقع{ ثم يعيده} كموقع التفريع على الاستفهام الإنكاري .
واعلم أن هذين الفعلين ( يبدىء ويعيد ) وما تصرف منهما مما جرى استعمالهما متزاوجين بمنزلة الاتباع كقوله تعالى{ وما يبدىء الباطل وما يُعيد} في سورة[ سبأ: 49] .قال في « الكشاف » في سورة سبأ: فجعلوا قولهم: لا يبدىء ولا يعيد ،مثلاً في الهلاك ،ومنه قول عبيد:
فاليوم لا يبدي ولا يعيد
ويقال: أبدأ وأعاد بمعنى تصرف تصرفاً واسعاً ،قال بشار:
فهمومي مُظِلة *** بادِئاتٍ وعودا
ويجوز أن تكون الرؤية علمية متعدية إلى مفعولين: أنكر عليهم تركهم النظر والاستدلال الموصّل إلى علم كيف يُبدىء الله الخلق ثم يعيده لأن أدلة بدء الخلق تفضي بالناظر إلى العلم بأن الله يعيد الخلق فتكون{ ثم} عاطفة فعل{ يعيده} على فعل{ يبدىء} والجميع داخل في حيز الإنكار .
و{ كيف} اسم استفهام وهي معلِّقة فعل{ يروا} عن العمل في معموله أو معموليه .والمعنى: ألم يتأملوا في هذا السؤال ،أي في الجواب عنه .والاستفهام ب{ كيف} مستعمل في التنبيه ولفت النظر لا في طلب الإخبار .
وجملة{ إن ذلك على الله يسير} مبينة لما تضمنه الاستفهام من إنكار عدم الرؤية المؤدية إلى العلم بوقوع الإعادة ،إذ أحالوها مع أن إعادة الخلق إن لم تكن أيسر من الإعادة في العرف فلا أقل من كونها مساوية لها وهذا كقوله تعالى{ وهو الذي يبدؤا الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه}[ الروم: 27] .والإشارة ب{ ذلك} إلى المصدر المفاد من{ يعيده} مثل عود الضمير على نظيره في قوله{ وهو أهون عليه}[ الروم: 27] .ووجه توكيد الجملة ب{ إن} ردُّ دعواهم أنه مستحيل .