استئناف لبيان بعض أحوال اليهود ،المنافية إسلامَ الوجه لله ،فالمراد بأصحاب هذه الصلات خصوص اليهود ،وهم قد عُرفوا بمضمون هذه الصلات في مواضع كثيرة من القرآن .والمناسبة: جريان الجدال مع النصارى وأن جُعلوا جميعاً في قَرَن قولِه:{ وقل للذين أوتوا الكتاب والأمين أأسلمتم} ( آل عمران: 20 ) .
( وجيء في هاته الصلات بالأفعال المضارعة لتدل على استحضار الحالة الفظية ،وليس المراد إفادة التجدّد ؛لأنّ ذلك وإن تأتَّى في قوله:{ يكفرون} لا يتأتَّى في قوله:{ ويقتلون} لأنَّهم قتلوا الأنبياء والذين يأمرون بالقسط في زمنٍ مضى .والمراد من أصحاب هذه الصلات يهود العَصر النبوي: لأنّهم الذين توعّدهم بعذاب أليم ،وإنّما حَمَل هؤلاء تبِعة أسلافهم لأنّهم معتقدون سداد ما فعله أسلافهم ،الذين قتلوا زكرياء لأنّه حاول تخليصَ ابنه يَحيَى من القتل ،وقتلوا يحيَى لإيمانه بعيسى ،وقتلوا النبي إرْمِيَاء بمصر ،وقتلوا حزقيال النبي لأجل توبيخه لهم على سوء أفعالهم ،وزعموا أنّهم قتلوا عيسى عليه السلام ،فهو معدود عليهم بإقرارهم وإن كانوا كاذبين فيه ،وقَتَل مَنشا ابنُ حزقيال ،ملكُ إسرائيل ،النبي أشعياء: نشره بالمِنشار لأنّه نهاه عن المنكر ،بمرأى ومسمع من بني إسرائيل ،ولم يحموه ،فكان هذا القتل معدوداً عليهم ،وكم قتلوا ممّن يأمرون بالقسط ،وكل تلك الجرائم معدودة عليهم ؛لأنّهم رضُوا بها ،وألَحّوا في وقوعها .
وقوله:{ بغير حق} ظرف مستقر في موضع الحال المؤكّدة لمضمون جملةِ{ يقتلون النبيّئين} إذ لا يكون قتل النبيّئين إلاّ بغير حق ،وليس له مفهوم لظهور عدم إرادة التقييد والاحترازِ ؛فإنّه لا يقتل نبيء بحق ،فذكر القيد في مثله لا إشكال عليه ،وإنّما يجيء الإشكال في القيد الواقع في حَيّز النفي ،إذا لم يكن المقصود تسلّط النفي عليه مثل قوله تعالى:{ لا يسألون الناس إلحافاً}[ البقرة: 273] وقولِه:{ ولا تكونوا أول كافر به ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً} وقد تقدم في سورة البقرة ( 41 .
والمقصود من هذه الحال زيادة تشويه فعلهم .
ولما كان قوله:{ ويقتلون الذين يأمرون بالقسط} مومئاً إلى وجه بناء الخبر: وهو أنَّهم إنّما قتلوهم لأنّهم يأمرون بالقسط أي بالحق ،فقد اكتفي بها في الدلالة على الشناعة ،فلم تحتج إلى زيادة التشنيع .
وقرأ الجمهور من العشرة{ يقتلون} الثاني مثل الأول بسكون القاف وقرأه حمزة وحده « ويُقاتلون » بفتح القاف بعدها بصيغة المفاعلة وهي مبالغة في القتل .
والفاء في{ فبشّرهم} فاء الجواب المستعملةُ في الشرط ،دخلت على خبر إنّ لأنّ اسم إنّ وهو موصول تضمن معنى الشرط ،إشارة إلى أنّه ليس المقصود ،قوماً معيّنين ،بل كل من يتَّصف بالصلة فجزاؤه أنّ يَعلم أنّ له عذاباً أليماً .واستعمل بشّرهم في معنى أنذرهم تهكّماً .
وحقيقة التبشير: الإخبار بما يُظهر سرور المخبَر ( بفتح الباء ) وهو هنا مستعمل في ضدّ حقيقته ،إذ أريد به الإخبار بحصول العذاب ،وهو موجب لحزن المخبَرين ،فهذا الاستعمال في الضدّ معدود عند علماء البيان من الاستعارة ،ويسمّونها تهكّمية لأنّ تشبيه الضدّ بضدّه لا يروج في عقل أحد إلاّ على معنى التهكّم ،أو التمليح ،كما أطلق عمرو ابن كلثوم .
اسم الأضياف على الأعداء ،وأطلق القرى على قتل الأعداء ،في قوله:
نزلتم مَنزل الأضيافِ منّا *** فعَجَّلْنَا القِرى أن تشتمونا
قَرَيْنَاكُم فعَجَّلْنا قِراكــم *** قُبَيْل الصُّبْح مِرْداةً طَحُونا
قال السكاكي: وذلك بواسطة انتزاع شَبه التضادّ وإلحافه بشَبه التناسب .