/م21
{إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} إن القضية تبدأ بالعناد والتعصب والتنكّر للرسل ،وتتحرك بالكفر بآيات الله الذي ينطلق من الرفض النفسي للاقتناع مهما كانت وسائل الإقناع التي تقدم إليهم ،وتتحول إلى عُقدةٍ إجرامية ،فهم يواجهون آيات الله ،ويحسون في أعماقهم بأنها الحق الذي لا جدال فيه ،ولكنهم يرفضونه بألسنتهم ومواقفهم ركوناً إلى أطماعهم وشهواتهم وتعقيداتهم المرضيّة ،ويخافون أن تنطلق الدعوة إلى الله في حياة الناس الذين يشعرون بالحاجة إلى الإيمان والعدل ،ويعمدون إلى النبيين ،فيطلبون منهم أن يسكتوا ويتنازلوا عما يدعون إليه على أساس الرغبة والرهبة .ويمتد الأنبياء في صبر الرسالة وهدوء الإيمان ،ويستمرون في الدعوة وفي الموقف ،ويتعاظم الخطر على المنحرفين ،فهذه الأصوات المؤمنة قد بدأت ترتفع من هنا وهناك .فهذا صوتٌ يرتفع بالإيمان ،وهذا صوتٌ ينطلق بالعدل ،وذاك صوتٌ يهجم على الظلم والبغي والطغيان .وبدأت الأصوات تدق عليهم الأبواب التي يعيشون خلفها ،وتقتحم عليهم حالة الأمن والطمأنينة والاسترخاء .وارتفعت الأصوات واشتدت حتى تحولت إلى ما يشبه الثورة ،أو هكذا خيّل إليهم في استشرافهم للمستقبل ..فماذا يفعلون ؟لا سبيل إلاّ إلى إخماد الصوت الأول الذي فتح للإنسان كل هذه الآفاق ،لتخمد الأصوات الآخرى ،ولا طريق إلى ذلك إلا بقتل النبيّ الرسول .
وبدأت المذبحة ،مذبحة النبيين في كل صباح ومساء ،واختفى النبيون من الساحة ولم تختفِ الأصوات ،فقد تحوّل كل واحد منها إلى آلاف الأصوات التي تنطق بالكلمة الواحدة والفكرة الواحدة والهدف الواحد ،وضجّت الساحة من جديد بالأمر بالعدل والإنكار على الظلم ،وأي ظلم أفظع من ظلم الذين يأمرون بالقسط ،وبدأت مذبحة المؤمنين في كل يوم ،وما زال التاريخ الدامي يفرض نفسه على ساحة الرسالات ،فالظلم لا يستطيع أن يدافع عن نفسه بالحجة والبرهان ،لأنه يفقد المبرّر لكل أفكاره وقناعاته ،والرسالات لا تستخدم القوة بل الإقناع ،لأنها تريد أن تفتح قلوب الناس على الله ،وعيون الناس على النور ،قبل أن تخضع الواقع لما تريد .وقد تجد في الشهادة روحاً جديدة تعطي الدم للرسالة ،ويظل التاريخ الدامي للرسالات ،يفتح لها آفاقاً جديدة قد لا يلمحها الذين يصنعونها ،ولكنها تشرق على الذين لا يزالون يواصلون الخطى من بعيد .وبعد ذلك ...ماذا استفاد هؤلاء المجرمون ؟إنها أيام يعيشونها في استرخاء ،ويبدأ العذاب القاتل في الدنيا ،في ضمائرهم ،وفي الآخرة ،عند الله .
{فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} ونلاحظ في التعبير بالبشارة بالعذاب أسلوباً من أساليب الاستهزاء بهم وبأفكارهم والتهديد لهم ،وذلك لأن البشارةفي مفهومهاتعني الإخبار بالخبر السارّ الذي يُرتاح إليه ويسرّ به .