وضُرِب الظِلّ مَثَلاً لأثر الإِيمان ،وضدُّه وهو الحرور مثلاً لأثر الكفر ؛فالظل مكان نعيم في عرف السامعين الأولين ،وهم العرب أهل البلاد الحارة التي تتطلب الظل للنعيم غالباً إلا في بعض فصل الشتاء ،وقوبل بالحَرور لأنه مُؤْلِم ومعذّب في عرفهم كما علمت ،وفي مقابلته بالحرور إيذان بأن المراد تشبيهه بالظل في حالة استطابته .
و{ الحرور} حر الشمس ،ويطلق أيضاً على الريح الحارة وهي السموم ،أو الحَرور: الريح الحارة التي تهب بليل والسموم تهب بالنهار .
وقدم في هذه الفقرة ما هو من حال المؤمنين على عكس الفقرات الثلاث التي قبلها لأجل الرعاية على الفاصلة بكلمة{ الحرور} .
وفواصل القرآن من متممات فصاحته ،فلها حظ من الإِعجاز .
فحال المؤمن يشبه حال الظل تطمئن فيه المشاعر ،وتصدر فيه الأعمال عن تبصر وتريّث وإتقان .وحال الكافر يشبه الحَرور تضطرب فيه النفوس ولا تتمكن معه العقول من التأمل والتبصر وتصدر فيها الآراء والمساعي معجَّلة متفككة .
وأعلم أن تركيب الآية عجيب فقد احتوت على واوات عطْف وأدوات نفي ؛فكلّ من الواوين اللذين في قوله:{ ولا الظلمات} الخ ،وقوله:{ الظل} الخ عاطف جملة على جملة وعاطف تشبيهات ثلاثة بل تشبيه منها يجمع الفريقين .والتقدير: ولا تستوي الظلمات والنور ولا يستوي الظِّل والحرور ،وقد صرح بالمقدر أخيراً في قوله:{ وما يستوي الأحياء ولا الأموات} .
وأما الواوات الثلاثة في قوله:{ والبصير}{ ولا النور}{ ولا الحرور} فكل واو عاطف مفرداً على مفرد ،فهي ستة تشبيهات موزعة على كل فريق ؛ف{ البصير} عطف على{ الأعمى} ،و{ النور} عطف على{ الظلمات} ،و{ الحرور} عطف على{ الظل} ،ولذلك أعيد حرف النفي .
وأما أدوات النفي فاثنان منها مؤكدان للتغلب الموجه إلى الجملتين المعطوفتين المحذوف فعلاهما{ ولا الظلمات ولا الظل} ،واثنان مؤكدان لتوجه النفي إلى المفردين المعطوفين على مفردين في سياق نفي التسوية بينهما وبين ما عطفا عليهما وهما واو{ ولا النور} ،وواو{ ولا الحرور} ،والتوكيد بعضه بالمثل وهو حرف{ لا} وبعضه بالمرادف وهو حرف{ ما} ولم يؤت بأداة نفي في نفي الاستواء الأول لأنه الذي ابتدىء به نفي الاستواء المؤكد من بعد فهو كله تأييس .وهو استعمال قرآني بديع في عطف المنفيات من المفردات والجمل ،ومنه قوله تعالى:{ لا تستوي الحسنة ولا السيئة} في سورة فصّلت ( 34 ) .