{ وما يستوي الأحياء ولا الأموات}
وجملة{ وما يستوي الأحياء ولا الأموات} أظهر في هذه الجملة الفعل الذي قدّر في الجملتين اللتين قبلها وهو فعل{ يستوي} لأن التمثيل هنا عاد إلى تشبيه حال المسلمين والكافرين إذ شبه حال المسلم بحال الأحياء وحال الكافرين بحال الأموات ،فهذا ارتقاء في تشبيه الحالين من تشبيه المؤمن بالبصير والكافر بالأعمى إلى تشبيه المؤمن بالحي والكافر بالميّت ،ونظيره في إعادة فعل الاستواء قوله تعالى في سورة الرعد ( 16 ):{ قل هل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي الظلمات والنور} .فلما كانت الحياة هي مبعث المدارك والمساعي كلها وكان الموت قاطعاً للمدارك والمساعي شبه الإِيمان بالحياة في انبعاث خير الدنيا والآخرة منه وفي تلقي ذلك وفهمه ،وشبه الكفر بالموت في الانقطاع عن الأعمال والمدركات النافعة كلها وفي عدم تلقي ما يلقى إلى صاحبه فصار المؤمن شبيهاً بالحي مشابهة كاملة لمَّا خرج من الكفر إلى الإِيمان ،فكأنه بالإِيمان نفخت فيه الحياة بعد الموت كما أشار إليه قوله تعالى في سورة الأنعام ( 122 ){ أو من كان ميّتاً فأحييناه} وكان الكافر شبيهاً بالميت ما دام على كفره .
واكتُفي بتشبيه الكافر والمؤمن في موضعين عن تشبيه الكفر والإِيمان وبالعكس لتلازمهما ،وأوتي تشبيه الكافر والمؤمن في موضعين لكون وجه الشبه في الكافر والمؤمن أوضح ،وعُكس ذلك في موضعين لأن وجه الشبه أوضح في الموضعين الآخرين .
{ إن الله يسمع من يشاء وما أنت بمسمع من في القبور}
لما كان أعظم حرمان نشأ عن الكفر هو حرمان الانتفاع بأبلغ كلام وأصدقه وهو القرآن كان حال الكافر الشبيهُ بالموت أوضح شبهاً به في عدم انتفاعه بالقرآن وإعراضه عن سماعه{ وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والْغوا فيه لعلكم تغلبون}[ فصلت: 26] ،وكان حال المؤمنين بعكس ذلك إذ تَلَقّوا القرآن ودرسوه وتفقهوا فيه{ الذين يستمعون القول فيتّبعون أحسنه أولئك الذين هداهم اللَّه}[ الزمر: 18] ،وأعقب تمثيل حال المؤمنين والكافرين بحال الأحياء والأموات بتوجيه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم معذرة له في التبليغ للفريقين ،وفي عدم قبول تبليغه لدى أحد الفريقين ،وتسلية له عن ضياع وابل نصحه في سباخ قلوب الكافرين فقيل له: إن قبول الذين قبلوا الهدى واستمعوا إليه كان بتهيئة الله تعالى نفوسَهم لقبول الذكر والعلم ،وإن عدم انتفاع المعرضين بذلك هو بسبب موت قلوبهم فكأنهم الأموات في القبور وأنت لا تستطيع أن تُسمع الأموات ،فجاء قوله:{ إن الله يسمع من يشاء وما أنت بمسمع من في القبور} على مقابلة قوله:{ وما يستوي الأحياء ولا الأموات} مقابلة اللفِّ بالنشر المرتب .
جملة{ إن الله يسمع من يشاء} تعليل لجملة{ إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب}[ فاطر: 18] ،لأن معنى القصر ينحلّ إلى إثبات ونفي فكان مفيداً فريقين: فريقاً انتفع بالإِنذار ،وفريقاً لم ينتفع ،فعلل ذلك ب{ إن الله يسمع من يشاء} .
وقوله:{ وما أنت بمسمع من في القبور} إشارة إلى الذين لم يشأ الله أن يسمعهم إنذارك .
واستعير{ من في القبور} للذين لم تنفع فيهم النذر ،وعبر عن الأموات ب{ من في القبور} لأن من في القبور أعرق في الابتعاد عن بلوغ الأصوات لأن بينهم وبين المنادي حاجز الأرض .فهذا إطناب أفاد معنى لا يفيده الإِيجاز بأن يقال: وما أنت بمسمع الموتى .
وجيء بصيغة الجمع{ الأحياء} و{ الأموات} تفنناً في الكلام بعد أن أورد الأعمى والبصير بالإِفراد لأن المفرد والجمع في المعرف بلام الجنس سواء إذا كان اسماً له أفراد بخلاف النور والظل والحرور ،وأما جمع{ الظلمات} فقد علمت وجهه آنفاً .