انتقال من إنذارهم بعذاب الآخرة على كفرهم إلى موعظتهم وتحذيرهم من أن يحل بهم عذاب الدنيا قبل عذاب الآخرة كما حلّ بأمم أمثالهم .
فالواو عاطفة جملة{ ألم يسيروا في الأرض} على جملة{ وأنذرهم يوم الأزِفَة}[ غافر: 18] الخ .والاستفهام تقريري على ما هو الشائع في مثله من الاستفهام الداخل على نفي في الماضي بحرف ( لْم ) ،والتقرير موجه للذين ساروا من قريش ونظروا آثار الأمم الذين أبادهم الله جزاء تكذيبهم رسلهم ،فهم شاهدوا ذلك في رحلتيهم رحلةِ الشتاء ورحلة الصيف وإنهم حدثوا بما شاهدوه مَن تضمهم نواديهم ومجالسهم فقد صار معلوماً للجميع ،فبهذا الاعتبار أسند الفعل المقرر به إلى ضمير الجمع على الجملة .
والمضارع الواقع بعد ( لَم ) والمضارعُ الواقع في جوابه منقلبان إلى المضي بواسطة ( لم ) .وتقدم شبيه هذه الآية في آخر سورة فاطر وفي سورة الروم .
والضمير المنفصل في قوله:{ كانُوا هُم} ضمير فصل عائد إلى{ الظالمين}[ غافر: 18] وهم كفار قريش الذين أريدوا بقوله:{ وأنذرهم}[ غافر: 18] ،وضمير الفصل لمجرد توكيد الحكم وتقويته وليس مراداً به قصر المسند على المسند إليه ،أي قصر الأشدّية على ضمير: كانوا} إذ ليس للقصر معنى هنا كما تقدم في قوله تعالى:{ إنني أنا الله} في سورة[ طه: 14] وهذا ضابط التفرقة بين ضمير الفصل الذي يفيد القصر وبين الذي يفيد مجرد التأكيد .واقتصار القزويني في « تلخيص المفتاح » على إفادة ضمير الفصل الاختصاص تقصير تبع فيه كلام « المفتاح » وقد نبه عليه سعد الدين في « شرحه على التلخيص » .
والمراد بالقوة القوةُ المعنوية وهي كثرة الأمة ووفرةُ وسائل الاستغناء عن الغير كما قال تعالى:{ فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق وقالوا مَن أشد منا قوة أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة}[ فصلت: 15]
وجملة{ كانوا هم أشد منهم قوَّة} الخ مستأنفة استئنافاً بيانياً لتفصيل الإِجمال الذي في قوله:{ كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم} لأن العبرة بالتفريع بعدها بقوله:{ فأخَذَهم الله بذنوبهم} .
وقرأ الجمهور{ منهم} بضمير الغائب ،وقرأه ابن عامر{ منكم بضمير خطاب الجماعة وكذلك رسمت في مصحف الشام ،وهذه الرواية جارية على طريقة الالتفات .
والآثار: جمع أثر ،وهو شيء أو شكل يرسمه فعل شيء آخر ،مثلُ أثر الماشي في الرمْل قال تعالى:{ فقبضت قبضة من أثر الرسول}[ طه: 96] ومثلُ العشب أثر المطر في قوله تعالى:{ فانظر إلى أثر رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها}[ الروم: 50] ،ويستعار الأثر لما يقع بعد شيء كقوله تعالى:{ فلعلك باخع نفسك على آثارهم}[ الكهف: 6] .
والمراد بالأرض: أرض أمتهم .
والفاء في{ فأخَذَهُم الله} لتفريع الأخذ على كونهم أشدَّ قوة من قريش لأن القوة أريد بها هنا الكناية عن الإِباء من الحق والنفور من الدعوة ،فالتقدير: فأعرضوا ،أو فكفروا فأخذهم الله .
والآخذ: الاستئصال والإِهلاك كنّي عن العقاب بالأخذ ،أو استعمل الأخذ مجازاً في العقاب .
والذنوب: جمع ذنب وهو المعصية ،والمراد بها الإِشراك وتكذيب الرسل ،وذلك يستتبع ذنوباً جمة ،وسيأتي تفسيرها بقوله:{ ذلك بأنَّهم كانت تأتِيهِم رُسُلُهم بالبينات} .
ومعنى:{ وما كانَ لهُم مِنَ الله من وَاق} ما كان لهم من عقابه وقدرته عليهم ،فالواقي: هو المدافع الناصر .
و{ مِن الأولى متعلقة بواقٍ ،} وقدم الجار والمجرور للاهتمام بالمجرور ،و{ من} الثانية زائدة لتأكيد النفي بحرف ( ما ) وذلك إشارة إلى المذكور وهو أخذ الله إياهم بذنوبهم .
والباء للسببية ،أي ذلك الأخذ بسبب أنهم كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فكفروا بهم ،وفي هذا تفصيل للإجمال الذي في قوله:{ فأخذهم الله بذنوبهم} .والجملة بعد ( أنَّ ) المفتوحة في تأويل مصدر .فالتقدير: ذلك بسبب تحقق مجيء الرسل إليهم فكفرهم بهم .