التّفسير
اعتبروا بعاقبة أسلافكم الظالمين:
إنّ أسلوب القرآن الكريم في كثير من الآيات أنّه بعد أن يتعرض لكليات القضايا الحساسة والمهمّة يمزجها ببعض المسائل الجزئية والمحسوسة ويأخذ بيد الانسان ليريه الحوادث الماضية و الحالية .لذلك فإنّ الآيات التي بين أيدينا تتحدث عن أحوال الأمم الظالمة السابقة ومنهم فرعون والفراعنة وما حلّ بهم من جزاء أليم ،وتدعوا الناس للاعتبار بمصير أولئك ،بعد ما كانت الآيات السابقة قد حدّثتنا عن يوم القيامة وصفاته وطبيعة الحساب الدقيق الذي ينطوي عليه .
يقول تعالى: ( أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم ) .
إنّ الذي تحكيه الآيات وتدعونا للاعتبار به ليس تأريخاً مدوناً نستطيع أن نشكّك في طبيعة الوثائق والنصوص المكوّنة له ،وإنّما هو تأريخ حي ينطق عن نفسه ،وينبض بالعبرة والعظة ،فهذه قصور الظالمين الخربة ،وما تركوه من جنات وعيون ،وهذه مدن الأشقياء التي نزل بساحتها العذاب والانتقام الإلهي ،وها هي عظامهم النخرة التي يطويها التراب ،والقصور المدفونة تحت الأرض ...ها هي كلّها تحكي عظة الدرس ،وعظيم العبرة ،خصوصاً وأنّ القرآن يزيدنا معرفةٌ بهؤلاء فيقول عنهم: ( كانوا هم أشد منهم قوة وآثاراً في الأرض ) .
كانوا يملكون السلطات القوية ،والجيوش العظيمة ،والمدنية الباهرة التيلا يمكن مقايستها بحياة مشركي مكّة .
إنّ تعبير ( أشد منهم قوّة ) يكشف عن قوتهم السياسية والعسكرية ،وعن قوتهم الإقتصادية والعلمية أيضاً .
أمّا التعبير في قوله تعالى: ( آثاراً في الأرض ) فلعله إشارة إلى تقدمهم الزراعي العظيم ،كما ورد في الآية ( 9 ) من سورة «الروم » في قوله تعالى: ( أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوّة وآثاروا الأرض وعمروها أكثر ممّا عمروها ) .
وقد يكون التعبير القرآني إشارة إلى البناء المحكم العظيم للأمم السابقة ،ممّا قاموا به في أعماق الجبال وبين السهول ،كما يصف القرآن ذلك في حال قوم «عاد »: ( أتبنون بكل ريع آية تعبثون وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون ){[3919]} .
ولكن عاقبة هؤلاء القوم ،بكل ما انطوت عليه حياتهم من مظاهر قوّة وحياة ونماء ،هي كما يقول تعالى: ( فأخذهم الله بذنوبهم وما كان لهم من الله من واق ) .
فلم تنفعهم كثرتهم ولم تمنعهم أموالهم وقدرتهم وشوكتهم من العذاب الإلهي عندما نزل بساحتهم .
لقد وردت كلمة «أخذ » مراراً في القرآن الكريم بمعنى العقاب ،وهي إشارة إلى «أخذ » القوم أو الجماعة قبل أن يُنْزل بها العقاب ،تماماً كما يقبض أوّلا على الشخص المجرم ،ثمّ يتمّ عقابه .