وإنما قالوا لجلودهم{ لِمَ شَهِدتُمْ عَلَيْنَا} دون أن يقولوه لسمعهم وأبصارهم لأن الجلود مواجهة لهم يتوجهون إليها بالملامة .وإجراء ضمائر السمع والبصر والجلود بصيغتي ضمير جمع العقلاء لأن التحاور معها صيرها بحالة العقلاء يومئذٍ .ومن غريب التفسير قول من زعموا أن الجلود أريد بها الفروج ونسب هذا للسدي والفراء ،وهو تعنت في محمل الآية لا داعي إليه بحال ،وعلى هذا التفسير بنى أحمد الجرجاني في كتاب « كنايات الأدباء » فعدَّ الجلود من الكنايات عن الفُروج وعزاه لأهل التفسير فجازف في التعبير .
والاستفهام في قولهم:{ لِمَ شَهِدتُمْ عَلَيْنَا} مستعمل في الملامة وهم يحسبون أن جلودهم لكونها جزءاً منهم لا يحق لها شهادتها عليهم لأنها تجر العذاب إليها .واستعمال الاستفهام عن العلة في معرض التوبيخ كثير كقوله تعالى:{ فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم}[ آل عمران: 66] .
وقول الجلود{ أنطَقَنَا الله} اعتذار بأن الشهادة جرت منها بغير اختيار .وهذا النطق من خوارق العادات كما هو شأن العالم الأخروي .وقولهم:{ الَّذِي أنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} تمجيد لله تعالى ولا علاقة له بالاعتذار ،والمعنى: الذي أنطق كل شيء له نطق من الحيوان واختلاف دلالة أصواتها على وجدانها ،فعموم{ كُلَّ شَيْءٍ} مخصوص بالعرف .
{ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ ترجعون}
يجوز أن تكون هذه الجملة والتي عطفت عليها من تمام ما أنطق الله به جلودهم قُتفِّيَ على مقالتها تشهيراً بخطئهم في إنكارهم البعث والمصير إلى الله لزيادة التنديم والتحسير ،وهذا ظاهر كون الواو في أول الجملة واو العطف فيكون التعبير بالفعل المضارع في قوله:{ وَإلَيْهِ تُرْجَعُونَ} لاستحضار حالتهم فإنهم ساعتئذٍ في قبضة تصرف الله مباشرة .وأما رجوعهم بمعنى البعث فإنه قد مضى بالنسبة لوقت إحضارهم عند جهنم ،أو يكون المراد بالرجوع الرجوع إلى ما ينتظرهم من العذاب .
ويجوز أن تكون هذه الجملة وما بعدها اعتراضاً بين جملة{ وَيَوْمَ نُحْشَرُ أعْدَاءَ الله إلى النَّارِ} وجملة{ فَإنْ يَصْبِرُوا فالنَّارُ مَثْوىً لَهُم}[ فصلت: 24] موجهاً من جانب الله تعالى إلى المشركين الأحياء لتذكيرهم بالبعث عقب ذكر حالهم في القيامة انتهازاً لفرصة الموعظة السابقة عند تأثرهم بسماعها .
ويكون فعل{ تُرْجَعُونَ} مستعملاً في الاستقبال على أصله ،والكلام استدلال على إمكان البعث .قال تعالى:{ أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد}[ ق: 15] .وتقديم متعلق{ تُرْجَعُونَ} عليه للاهتمام ورعاية الفاصلة .