عَطف على{ وجعلوا له من عباده جزءاً}[ الزخرف: 15] ،أعيد ذلك مع تقدم ما يغني عنه من قوله:{ أم اتخذَ مما يخلق بناتٍ}[ الزخرف: 16] ليبْنَى عليه الإنكار عليهم بقوله:{ أَأُشهدوا خلقهم} استقراء لإبطال مقالهم إذ أُبطل ابتداءً بمخالفته لدليل العقل وبمخالفته لما يجب لله من الكمال ،فكمُل هنا إبطاله بأنه غير مستند لدليل الحس .
وجملة{ الذين هم عند الرحمن} صفة الملائكة .قرأ نافع وابن كثير وابن عامر وأبو جعفر ويعقوب{ عند} بعين فنون ودال مفتوحة والعندية عندية تشريف ،أي الذين هم معدودون في حضرة القدس المقدسة بتقديس الله فهم يتلقون الأمر من الله بدون وساطة وهم دائبون على عبادته ،فكأنهم في حضرة الله ،وهذا كقوله:{ وله ما في السماوات والأرض ومَن عنده}[ الأنبياء: 19] وقوله:{ إن الذين عند ربّك لا يستكبرون عن عبادته}[ الأعراف: 206] ومِنْه قول النبي صلى الله عليه وسلم «تحاجَّ آدمُ وموسى عندَ الله عز وجل» الحديث ،فالعندية مجاز والقرينة هي شأن من أضيف إليه{ عِنْد} .
وقرأ الباقون{ عِبَادُ الرحمن} بعين وموحدة بعدها ألف ثم دال مضمومة على معنى: الذين هم عباد مُكرمون ،فالإضافة إلى اسم الرحمان تفيد تشريفهم قال تعالى:{ بل عبادٌ مكرمون}[ الأنبياء: 26] والعبودية عبودية خاصة وهي عبودية القرب كقوله تعالى:{ فكذّبوا عَبْدنَا}[ القمر: 9] .
وجملة{ أَأُشهدوا خلقهم} معترضة بين جملة{ وجعلوا الملائكة} وجملةِ{ وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم}[ الزخرف: 20] .
وقرأ نافع وأبو جعفر بهمزتين أولاهما مفتوحة والأخرى مضمومة وسكون شين{ أَأُشْهدوا} مبنياً للنائب وكيفية أداء الهمزتين يَجري على حكم الهمزتين في قراءة نافع ،وعلى هذه القراءة فالهمزة للاستفهام وهو للإنكار والتوبيخ .وجيء بصيغة النائب عن الفاعل دون صيغة الفاعل لأن الفاعِل معلوم أنه الله تعالى لأن العالَم العلوي الذي كان فيه خلق الملائكة لا يحضره إلا مَن أمر الله بحضوره ،ألا ترى إلى ما ورد في حديث الإسراء من قول كُلّ ملَك موكَّللٍ بباب من أبواب السماوات لِجبريل حين يستفتح ( من أنت ؟قال: جبريل ،قال: ومن معك ؟قال: محمد قال: وقد أرسل إليه ؟قال: نعم ،قال: مرحباً ونعم المجيء جاء وفتح له ) .
والمعنى: أأشهدهم الله خلق الملائكة وكقوله تعالى:{ ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض}[ الكهف: 51] .
وقرأه الباقون بهمزة مفتوحة فشين مفتوحة بصيغة الفعل ،فالهمزة لاستفهام الإنكار دخلت على فعل شَهِد ،أي ما حضروا خلق الملائكة على نحو قوله تعالى:{ أم خلقنا الملائكة إناثاً وهم شاهدون}[ الصافات: 150] .
وجملة{ ستكتب شهادتهم} بدل اشتمال من جملة{ أَأُشهدوا خلقهم} لأن ذلك الإنكار يشتمل على الوعيد .وهذا خبر مستعمل في التوعد .وكتابة الشهادة كناية عن تحقق العقاب على كذبهم كما تقدم آنفاً في قوله:{ وإنه في أُم الكتاب لدينا لعليٌّ حكيم}[ الزخرف: 4] ومنه قوله تعالى:{ سنكتب ما قالوا}[ آل عمران: 181] .والسِّين في{ ستكتب} لتأكيد الوعيد .
والمراد بشهادتهم: ادعاؤهم أن الملائكة إناثاً ،وأطلق عليها شهادة تهكماً بهم .
والسؤال سؤال تهديد وإنذار بالعقاب وليس مما يتطلب عنه جواب كقوله تعالى:{ ثم لتُسألُنّ يومئذٍ عن النعيم}[ التكاثر: 8] ،ومنه قول كعب بن زهير:
لَذاكَ أهيبُ عندي إذْ أُكلمه *** وقيل إنّك مَنْسُوبٌ ومَسْؤول
أي مسؤول عما سبق منك من التكذيب الذي هو معلوم للسائِل .