قوله تعالى:{وَجَعَلُواْ الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَانِ إِنَاثاً أَشَهِدُواْ خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْألُونَ} .
قرأ هذا الحرف نافع وابن كثير وابن عامر{عِندَ الرَّحْمَانِ} بسكون النون وفتح الدال ظرف كقوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} [ الأعراف: 206] ،وقرأه أبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي{الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَانِ} بكسر العين وباء موحدة بعدها ألف وضم الدال جمع عبد كقوله:{وَعِبَادُ الرَّحْمَانِ} الآية .
وقوله{أَشَهِدُواْ خَلْقَهُمْ} .قرأه عامة السبعة غير نافع أشهدوا بهمزة واحدة مع فتح الشين ،وقرأه نافع أأشهد .بهمزتين الأولى مفتوحة محققة ،والثانية مضمومة مسهلة بين بين وقالوا يجعل بين الهمزتين ألف الإدخال على إحدى الروايتين .
وقد ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أربع مسائل:
الأولى: أن الكفار افتروا على الملائكة أنهم إناث زاعمين أنهم بنات الله .
الثانية: أنه وبخهم على ذلك توبيخاً شديداً وأنكر عليهم ذلك في قوله:{أَشَهِدُواْ خَلْقَهُمْ} يعني هل حضروا خلق الله لهم فعاينوهم إناثاً .
الثالثة: أن شهادتهم الكاذبة بذلك ستكتب عليهم .
الرابعة: أنهم يسألون عنها يوم القيامة .
وهذه المسائل الأربع التي تضمنتها هذه الآية الكريمة ،جاءت موضحة في غير هذا الموضع .
أما الأولى منها .وهي كونهم اعتقدوا الملائكة إناثاً ،فقد ذكرها تعالى في مواضع من كتابه كقوله تعالى{أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيمًا} [ الإسراء: 40] .وكقوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الأنثى} [ النجم: 27] الآية ،وقوله تعالى{فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثاً} [ الصافات: 149 -150] الآية .إلى غير ذلك من الآيات .
وأما المسألة الثانية ،وهي سؤاله تعالى لهم على وجه الإنكار والتوبيخ والتقريع هل شهدوا خلق الملائكة وحضروه ،حتى علموا أنهم خلقوا إناثاً فقد ذكرها في قوله تعالى:{أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثاً وَهُمْ شَاهِدُونَ [ الصافات: 150] وبين تعالى أنه لم يشهد الكفار خلق شيء في قوله:{مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ والأرض وَلاَ خَلْقَ أَنفُسِهِمْ} [ الكهف: 51] الآية .
وأما المسألة الثالثة التي هي كون شهادتهم بذلك الكفر ستكتب عليهم ،فقد ذكرها تعالى في مواضع من كتابه كقوله تعالى:{وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِين َكِرَاماً كَاتِبِين َيَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [ الانفطار: 10 -12] ،وقوله تعالى:{هذا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّ كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [ الجاثية: 29] ،وقوله تعالى:{أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [ الزخرف: 80] ،وقوله تعالى:{إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ} [ يونس: 21] وقوله تعالى:{وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ في عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُوراً اقْرَأْ كَتَابَكَ} [ الإسراء: 13 -14] الآية .وقوله تعالى:{سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدّاً} [ مريم: 79] .
وأما المسألة الرابعة: وهي كونهم يسألون عن ذلك الافتراء والكفر ،فقد ذكرها تعالى في آيات من كتابه كقوله تعالى:{وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْألُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} [ العنكبوت: 13] وقوله تعالى:{فَوَرَبِّكَ لَنَسْألَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [ الحجر: 92 -93] ،وقوله تعالى:{وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْألُونَ} [ الزخرف: 44] وقوله تعالى:{وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِّمّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْألُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ} [ النحل: 56] إلى غير ذلك من الآيات .