{ ثُمّ} هنا عاطفة على جملة:{ قل تعالوا}[ الأنعام: 151] فليست عاطفة للمفردات ،فلا يُتوهَّم أنَّها لتراخي الزّمان ،بل تنسلخ عنه حين تعطف الجمل فتدل على التّراخي في الرّتبة ،وهو مهلة مجازيّة ،وتلك دلالة ( ثُم ) إذا عطفت الجُمَل .وقد استصعب على بعض المفسّرين مسلك ( ثُمّ ) في هذه الآية لأنّ إتيان موسى عليه السّلام الكتاب ليس برتبة أهمّ من رتبة تلاوة ما حرّمه الله من المحرّمات وما فرضه من اتّباع صراط الإسلام .وتعدّدت آراء المفسّرين في محمل ( ثُمّ ) هنا إلى آراء: للفراء ،والزجاج ،والزّمخشري ،وأبي مسلم ،وغيرهم ،كلّ يروم التخلّص من هذا المضيق .
والوجه عندي: أنّ ( ثُمّ ) ما فارقت المعروف من إفادة التّراخي الرّتبي ،وأنّ تراخي رتبة إيتاء موسى عليه السّلام الكتاب عن تلاوة ما حَرّم الله في القرآن ،وما أمر به من ملازمة صراط الإسلام ،إنَّما يظهر بعد النَّظر إلى المقصود من نظم الكلام ،فإنّ المقصود من ذكر إيتاء موسى عليه السّلام الكتاب ليس لذاته بل هو التّمهيد لقوله:{ وهذا كتاب أنزلناه مبارك}[ الأنعام: 92] ليرتّب عليه قوله:{ أن تقولوا إنَّما أنْزِل الكتابُ على طائفتين من قبلنا} إلى قوله:{ وهدى ورحمة}[ الأنعام: 156 ،157] ،فمعنى الكلام: وفوْق ذلك فهذا كتاب أنزلناه مبارك جمع فيه ما أوتيه موسى عليه السّلام ( وهو أعظم ما أوتيه الأنبياء من قبله ) وما في القرآن: الذي هو مصدّق لما بين يديه ومهيمن عليه ؛إن اتَّبعتموه واتَّقيتم رَحمناكم ولا معذرة لكم أن تقولوا لو أنزل لنا كتاب لكنّا أفضل اهتداءً من أهل الكتابين ،فهذا غرض أهمّ جمعاً لاتّباع جميع ما اشتمل عليه القرآن ،وأدْخل في إقناع المخاطبين بمزية أخذهم بهذا الكتاب .
ومناسبة هذا الانتقال: ما ذكر من صراط الله الذي هو الإسلام ،فإنّ المشركين لمّا كذّبوا دعوة الإسلام ذكَّرهم الله بأنَّه آتى موسى عليه السّلام الكتاب كما اشتهر بينهم حسبما بيّناه عند قوله تعالى:{ وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى} ( 91 ) الآية ،في هذه السّورة ،لينتقل إلى ذكر القرآن والتّحريض على اتّباعه فيكون التّذكير بكتاب موسى عليه السّلام تمهيداً لذلك الغرض .
و{ الكتاب} هو المعهود ،أي التّوراة ،و{ تماما} حال من الكتاب ،والتّمام الكمال ،أي كان ذلك الكتاب كمالاً لما في بني إسرائيل من الصّلاح الذي هو بقيّة ممّا تلقّوه عن أسلافهم: من صلاح إبراهيم ،وما كان عليه إسحاق ويعقوبُ والأسباط عليهم السّلام ،فكانت التّوراة مكمّلة لصلاحهم ،ومزيلة لما اعتراهم من الفساد ،وأنّ إزالة الفساد تكملة للصّلاح .ووصف التّوراة بالتّمام مبالغة في معنى المُتِمّ .
والموصول في قوله:{ على الذي أحسن} مراد به الجنس ،فلذلك استوى مفرده وجمعه .
والمراد به هنا الفريق المحسن ،أي تماماً لإحسان المحسنين من بنِي إسرائيل ،فالفعل منزّل منزلة اللاّزم ،أي الذي اتَّصف بالإحسان .
والتّفصيل: التّبيين ،وقد تقدّم عند قوله تعالى:{ وكذلك نفصّل الآيات} في هذه السّورة ( 55 ) .
و{ كلّ شيء} مراد به أعظم الأشياء ،أي المهمّات المحتاج إلى بيان أحكامها في أحوال الدّين .فتكون ( كلّ ) مستعملة في معنى الكثرة كما تقدّم في قوله تعالى:{ ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك} في سورة البقرة ( 145 ) .أو في معنى العظيم من الأشياء كأنَّه جمع الأشياء كلّها .
أو يراد بالشّيء: الشّيء المهمّ ،فيكون من حذف الصّفة ،كقوله:{ يأخذ كل سفينة غصباً}[ الكهف: 79] ،أي كلّ سفينة صالحة ،ومثله قوله تعالى:{ ما فرطنا في الكتاب من شيء}[ الأنعام: 38] .
وقوله:{ لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون} رجاء أن تؤمنوا بلقاء ربّهم ،والضّمير عائد إلى معلوم من المقام وهم بنو إسرائيل ،إذ قد علم من إيتاء موسى عليه السّلام الكتاب أنّ المنتفعين به هم قومه بنو إسرائيل ،ومعنى ذلك: لعلّهم إن تحَرّوا في أعمالهم ،على ما يناسب الإيمانَ بلقاء ربّهم ،فإنّ بني إسرائيل كانوا مؤمنين بلقاء الله من قبل نزول التّوراة ،ولكنّهم طرأ عليهم من أزمنة طويلة: من أطوار مجاورة القبط ،وما لحقهم من المذلّة والتغرّب والخصاصة والاستعباد ،ما رفع منهم العلم ،وأذْوَى الأخلاق الفاضلة ،فنسوا مراقبة الله تعالى ،وأفسدوا ،حتّى كان حالهم كحال من لا يؤمن بأنَّه يلقى الله ،فأراد الله إصلاحهم ببعثة موسى عليه السّلام ،ليرجعوا إلى ما كان عليه سلفهم الصّالح من مراقبة الله تعالى وخشية لقائه ،والرّغبة في أن يلقوه وهو راض عنهم .وهذا تعريض بأهل مكة ومن إليهم من العرب ،فكذلك كان سلفهم على هدى وصلاح ،فدخل فيهم من أضلّهم ولقَّنهم الشّرك وإنكارَ البعث ،فأرسل الله إليهم محمّدا صلى الله عليه وسلم ليردّهم إلى الهدى ويؤمنوا بلقاء ربّهم .
وتقديم المجرور على عامله للاهتمام بأمر البعث والجزاء .