ويظل الحديث مع أعداء الدعوة الذين كانوا يثيرون الحديث حول الكتب السماوية السابقة ودورها في هداية الناس ،ويعتبرون أن مشكلتهم ،في مواقع المقارنة بين أولئك وبينهم ،هو أنهم لم ينزل عليهم كتاب ،ولم يستطيعوا دراسة ما أنزل ،ويتحدث الله هنا عن كتاب موسى( ع )وهو التوراةفي مقارنةٍ بينه وبين القرآن ،وفي مناقشةٍ لهم في ما يثيرونه من حديث ..
{ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} .ما موقع «ثم » هنا ؟هي تعني تأخّر ما بعدها عما قبلها ،ولكن الأمر هنا بالعكس ،لأن القرآن نزل بعد التوراة ،وقد ذهب المفسرون مذاهب شتّى في توجيه ذلك ،ولعل الأقرب في هذا المجال أن يقال: إن الوصايا التي تضمنتها الآيات السابقة كانت مبادىء عامّة في الرسالات الأولى السابقة ،في ما قبل موسى( ع ) ،وما أجمله الله للناس ،مما أنزله من صحف إبراهيم( ع ) وغيره ،ولم يفصّله لهم في قوانين مفصّلة تتناول مفردات هذه المبادىء .وهذا ما قد نستوحيه من اعتبار الرسالات المتأخرة امتداداً لرسالة إبراهيم( ع ) ،ومن الحديث عن وحدة الرسالات ،في ما تشتمل عليه من مبادىء عامّة .
وهكذا كانت الرسالات عبارة عن وصايا من أمثال الوصايا التي تحدّثت عنها الآيات السابقة ..ثم جاء كتاب موسى ،بعد ذلك{تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ} لا نقصان فيه ،لما يحتاج إليه الناس من شؤونهم ،وربما كان هذا هو أوّل كتابٍ مفصّل ينزله الله على الناس ،على الوجه الأحسن ،والطريقة الأفضل ،والأسلوب الأمثل .وهذا ما نفهمه من هذه الفقرة ،لأن جوّ الآية يوحي بأنها واردة في مقام بيان كمال الكتاب وقيمته وموقعه من حركة الرسالات التي كان اللهسبحانهينزلها بالطريقة التي تتناسب مع كل مرحلةٍ من مراحل تطوّر الإسلام الفكري ،وبهذا كانت تتفاضل في أسلوبها وأفكارها وفاعليتها في بناء شخصية الإنسان .
ونلاحظ أن هذا التعبير{عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ} منسجمٌ مع التعابير القرآنية المماثلة:{ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [ فصلت:34]{وَلاَ تُجَادِلُواْ أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [ العنكبوت:46] حيث أريد منها الطريقة الأحسن ،أو الكلمة الأحسن .وربما كان هذا أولى ممّا فهمه المفسّرون ،من أن المراد بها الإنسان الذي أحسن ،أي صدر منه الإحسان ،وذلك من أجل أن تتمّ به نقيصته ،فإن كلمة{عَلَى} لا تتناسب مع أسلوب الآية ،لأنه لم يسبقها فعلٌ يتعدى بعلى ،كما أنه لا معنى لأن يكون الكتاب مختصاً بالذي هو أحسن ،فإنه لجميع الناس ،لينمّي الذي أحسن ،وليهدي الذي أساء .
{وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ} ممّا يحتاجه الناس في شؤون حياتهم العامة والخاصة ،المادية والروحيّة ،بحيث كان الكتاب يمثّل الفكر والتشريع الذي لا يشعر الإنسان معه أنه بحاجةٍ إلى غيره ،ممّا استحدثه الناس من أفكارٍ وفلسفاتٍ وقيم ،لتكون أفكاره وفلسفته وقيمه هي التي تبني للإنسان شخصيته ،وتحلُّ له مشاكله ،وترتفع به إلى المستوى الأفضل من حركة التكامل في الحياة ،من دون فرقٍ بين الجوانب الروحيّة والجوانب المادية .وبهذا يمكن الردّ على الفكرة التي لا يزال بعض الباحثين يكررونها ،وهي غلبة الجانب الماديّ على الجانب الروحي في التوراة ،وغلبة الجانب الروحيّ على الجانب الماديّ في الإنجيل ،لتنتهي الفكرة إلى النتيجة الحاسمة ،وهي تحقيق التوازن في القرآن بين الجانبين .فإننا نلاحظ على ذلك أولاً أنه يختلف مع فكرة تمامية الكتاب على الطريقة الأحسن ،وكونه تفصيلاً لكل شيء ،وثانياً أنه يتنافى مع أحاديث القرآن عن التوراة ،في الجوانب الروحية التي يحتج بها على أهل الكتاب في مسيرتهم المنحرفة عن الخط الروحي .
وثالثاً ،أنه لا ينسجم مع ما يريده الله لرسالاته من أن تكون هي وحدها الموجّهة للإنسان في خط السير في أيّ جانبٍ من جوانب حركة الشخصية في الحياة ،فلا يمكن أن يشرّع للجانب المادي ويترك الجانب الروحيّ ،وهو المهمّ ،خاضعاً لأفكارٍ وفلسفات أخرى .
ولعلّ من مشاكل الفكر الروحي الإسلامي ،أن بعض المسلمين حاولوا تفسير كثيرٍ من المفاهيم الروحية الإسلامية ،بالطريقة الفلسفية العرفانيّة المستمدة من أصولٍ فلسفية غير إسلامية ،ما جعل طريقة التفكير والسلوك تبتعد عن بساطة المفاهيم الإسلامية البسيطة القريبة من الوجدان ،البعيدة عن التعقيد ،مع أن النصوص الدينيّة قد أفاضت الحديث عن كل الآفاق الروحية للإنسان .فكيف يكون الحال لو ترك الأمر للفراغ الفكري الذي يقود الإنسان إلى البحث عما يملأه بطريقته الخاصة ؟
{وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُم بِلِقَآءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ} أمَّا أن يكون هدًى ،فلأنه يفتح قلوب الناس على الله ،وينفتح بهم من خلال ذلك على الحياة ،فينير لهم دروبها ،ويعيشون معها النور المشرق من آفاق الله ،فلا يضيعون في متاهات الدروب ،وأمَّا أنه رحمة ،فلأن الرحمة في صفات الله ،لا تمثّل حالةً عاطفيّةً انفعاليّةً في ما يشعر به البشر من انفعالاتٍ وعواطف ،بل هي الرعاية الشاملة لحياتهم ،بما ينمّي لهم تفكيرهم وروحيتهم ،ويسهّل لهم أمر معاشهم ،ويساعدهم في حل مشاكلهم ،ويقودهم إلى الغاية المثلى التي ترفع مستواهم وتنقذ مصيرهم في الدنيا والآخرة .
وقد أراد الله لهذا الكتاب أن يكون وسيلةً ثقافية وروحية للاقتناع بيوم القيامة ،وهو اليوم الذي يلتقي الناس فيه الله في لقاء روحي مباشر يستمعون إلى كلامه إليهم وحديثه معهم وحسابه لهم ،مما لم يحدث في الدنيا ،لا سيّما أن الآخرة تمثل نهاية المطاف وغاية النهاية في مواجهة المصير بعيداً عما كانوا يعيشونه في الدنيا من التجاذب بين خط الله وخط الشيطان ،والخير والشر ،والحق والباطل ،ليلتقوا بالحق الذي لا باطل معه ،والخير الذي لا شر معه ،ولينفتحوا على الله الذي لا مجال لحركة الشيطان عنده عندما ينطلق النداء: لمن اليوم ؟لله الواحد القهار .
وعلى ضوء هذا ،فليس المراد من اللقاء بالله اللقاء الحسّي ،لأن الله لا تدركه الأبصار ،ولكنه اللقاء بالمعنى الذي ذكرناه ،وهو اللقاء الروحي المباشر من خلال الإطلالة الإلهية على عباده في ذلك اليوم بطريقة تختلف عن إطلالته عليهم في ما مضى من حياتهم في الدنيا .
وربما كان المراد به مشاهدتهم للثواب والعقاب في يوم القيامة ،وهو لا يخلو من خفاء من خلال سياق التعبير .
أمّا التركيز على هذا الإيمان بلقاء الله باعتباره هدف الرسالات ،فلأنه يفتح للإنسان اللآفاق الواسعة للمسؤولية في أقواله وأفعاله وعلاقاته ومواقعه في هذه الحياة ،باعتبار أن اليوم الآخر هو اليوم الذي يواجه فيه نتائج المسؤولية بشكل حاسم ،فلا يجد هناك إلاّ الحقيقة الإلهية التي لا مجال لأي شك فيها ،حيث يواجه مصيره المحتوم في الجنة أو النار .
ولولا الإيمان باليوم الآخر من خلال الإيمان بالله ،لما انطلقت الدوافع الخيّرة الطاهرة ،والالتزامات المنضبطة الحاسمة وفق المبادىء والقيم الروحية والأخلاقية التي تحكم حركة الفرد والمجتمع ،وهذا هو مبعث الاهتمام به في تقرير العقيدة كأساس للقاعدة التي ترتكز عليها .
وقد تحدّث المتحدّثون عن خلو التوراة من الحديث عن يوم القيامة ،إلا من خلال إشارات سريعة عابرة ومختصرة ،ولكن القرآن يؤكد ذلك ويعتبر من خلال هذه الآية وغيرها أن الله أنزل التوراة مفصّلة لكل شيء يتصل بالعقيدة والشريعة والإنسان والحياة ،لتكون هدى ورحمة لمن آمنوا بلقاء ربهم ،الأمر الذي يوحي بأن هناك لوناً من ألوان التحريف في التوراة المتداولة انطلاقاً من بعض التعقيدات المادية التي كانت تتحرك في الواقع اليهودي .