/م154
ثمّ قال عقيب ذلك في هذه الآيات: ( ثمّ آتَينا موسى الكتابَ تَماماً عَلى الّذي أحسن ) فقد أتممنا نعمتنا على المحسنين والذين سلّموا لأمره واتبعوه .
وممّا قيل يتّضح معنى كلمة «ثُمّ » تُستعمل في اللغة العربية عادة في «العطف مع التراخي » ويكون معنى الآية هو: أنّنا آتَينا هذه التعاليم والوصايا العامّة للأنبياء السابقين أوّلا ،ثمّ آتينا موسى كتاباً سماوياً وَبَيّنا فيه هذه التعاليم والبرامج وغيرها من التعاليم والبرامج اللازمة .
وبهذا لا حاجة إِلى ما ذهب إِليه بعض المفسّرين من التوجيهات المختلفة ،والضعيفة أحياناً في هذا المجال .
كما تتّضح هذه النقطة أيضاً ،وهي أنّ عبارة: ( الذي أحسَنَ ) إِشارة إِلى جميع المحسنين ،والذين يستجيبون للحق ،ويقبلون بالأوامر الإِلهية .
( وتفصيلا لكل شيء ) فإِن فيه كلّ شيء ممّا يحتاج إِليه المجتمع ،وممّا له أثرٌ في تكامل الإِنسان وترشيده .
( وَهُدىً ورحمة ) أي أنّ في هذا الكتاب الذي نزل على موسى مضافاً إِلى ما سبق: هدىً ورحمةً .
إِنَّ جميع هذه البرامج ما هيَ إِلاّ لكي يؤمنوا بيوم القيامة ،وبلقاء الله ،ولكي يُطهِّروا عن طريق الإِيمان بالمعاد أفكارَهم ،وأقوالَهم ،وأعمالَهم ويزكوها: ( لعلّهم بلقاء ربّهم يُؤمِنُون ) .
هذا ،ويمكن أن يُقال: إِذا كانت شريعة موسى شريعةً كاملةً ( كما يُستفاد من كلمة «تماماً » ) فما الحاجة إِلى شريعة عيسى ،وإِلى الشريعة الإِسلامية ؟
ولكن يجب أن يُعْلَم أنَّ كلّ شريعة من الشرائع إِنّما تكون شريعة جامعة وكاملة بالنسبة لعصرها ،ومن المستحيل أن تنزل شريعة ناقصة من جانب الله تعالى .
بيد أنّ هذه الشريعة التي تكون كاملةً بالنسبة إِلى عصر معيَّن يمكن أن تكون ناقصةً غير كاملة بالنسبة إِلى العصور اللاحقة ،كما أنّ البرنامجَ الكاملَ الجامعَ المُعَدّ لمرحلة الدراسة الابتدائية ،يكون برنامجاً ناقصاً بالنسبة إِلى مرحلة الدراسة المتوّسطة ،وهذا هو السرّ في إِرسال الأنبياء المتعددين بالكتب السماويّة المختلفة المتنوعة حتى ينتهي الأمرُ إِلى آخر الأنبياء وآخر التعاليم .
نعم إِذ تَهيّأ البشر لتلقّي التعاليم النهائية ،وصدرت إِليهم تلك التعاليم والأوامر ،لم يبق حاجةٌبعد ذلكإِلى دين جديد ،وكان شأنهم حينئذ شأنَ المتخّرجين الذين يمكنهم بما عندهم من معلومات الحصول على نجاحات علمية عن طريق المطالعة والتأمل .
إِن أتباع مثل هذه الشريعة ،ومثل هذا الدين ( النهائي ) لن يحتاجوا إِلى دين جديد ،وإِنّما يكتسبون طاقة حركتهم وتقدمهم من نفس ذلك الدين الإِلهي .
كما أنّه يُستفاد من هذه الآية أيضاً أنّ القضايا المرتبطة بالقيامة قد وردت في التّوراة الأصلية بالقدر الكافي .وإِذا لم نلاحظ اشارة إِلى قضايا الحشر والمعاد في التّوراة الفعلية والكتب الحاضرة المرتبطة بها إِلاّ نادراً ،فالظاهر أنّ ذلك بسبب تحريف اليهود وأصحاب الدنيا الذين كانوا يرغبون في قلّة التحدّث في القيامة وقلّة السماع عنها .
على أنّه قد وردت في التّوراة الفعلية مع ذلك إِشارات عابرة ومختصرة إِلى مسألة القيامة ،ولكنّها قليلة إِلى درجة دفع بالبعض إِلى القول: إنّ اليهود لا يعتقدون بالمعاد والقيامة أساساً ،ولكن هذا الكلام أشبه بالمبالغة من الواقع والحقيقة .
كما أنّه يجب أيضاً أن نلفت نظر القارئ إِلى أنّ المراد من لقاء الله الذي ورد في الآيات القرآنية ليس هو اللقاء الحسي والرؤية البصرية ،بل المرادُ هو نوعٌ من الشهود الباطني ،واللقاء الروحاني ،الذي يتحقق في يوم القيامة على أثر التكامل الإِنساني الحاصل للأشخاص ،أو المقصود منه هو: مشاهدة الثوابِ والعقابِ في العالم الآخرَ .