جملة:{ قالوا أرجه} جواب القوم المستشَارين ،فتجر يدها من حرف العطف لجريانها في طريق المحاورة ،أي: فأجاب بعض الملأ بإبداء رأي لفرعون فيما يتعين عليه اتخاذه .ويجوز أن تكون جملة:{ قالوا أرجه} بدلاً من جملة:{ قال الملأ من قوم فرعون} بإعادة فعل القول وهو العامل في المبدل منه إذا كان فرعون هو المقصود بقولهم:{ فماذا تأمرون} .
وفعل{ أرجه} أمر من الإرجاء وهو التأخير .قرأه نافع ،وعاصم ،والكسائي وأبو جعفر{ أرجه} بجيم ثم هاء وأصله ( أرجئه ) بهمزة بعد الجيم فسُهلت الهمزة تخفيفاً ،فصارت ياء ساكنة ،وعوملت معاملة حرف العلة في حالة الأمر ،وقرأه الباقون بالهمز ساكناً على الأصل ولهم في حركات هاء الغيبة وإشباعها وجوه مقررة في علم القراءات .
والمعنى: أخّرْ المجادلة مع موسى إلى إحضار السحرة الذين يدافعون سحره ،وحكى القرآن ذكر الأخ هنا للإشارة إلى أنه طوي ذكره في أول القصة ،وقد ذكر في غير هذه القصة ابتداء .
وعدي فعل الإرسال ( بفي ) دون ( إلى ) لأن الفعل هنا غير مقصود تعديته إلى المرسل إليهم بل المقصود منه المرسَلون خاصة .وهو المفعول الأول .إذ المعنى: وأرسل حاشرين في المدائن يأتوك بالسّحرة ،فعُلم أنهم مرسلون للبحث والجلب .لا للإبلاغ وهذا قريب من قوله تعالى:{ فأرسلنا فيهم رسولاً منهم} في سورة المؤمنين ( 32 ) ،قال في{ الكشاف} هنالك: « لم يُعَد الفعل بقي مثلَ ما يُعدى بإلى ،ولكن الأمة جعلت موضعاً للإرسال كما قال رؤبة:
أرسلتَ فيها مُصْعَبا ذَا إقحام{[239]}
وقد جاء ( بَعَثَ ) على ذلك في قوله:{ ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيراً}[ الفرقان: 51] ،وقد تقدم آنفاً قريب منه عند قوله تعالى:{ وما أرسلنا في قرية من نبي}[ الأعراف: 94] .
والمَدائن: جمع مدينة ،وهي بوزن فعيلة ،مشتقة من مَدَن بالمكان إذا أقام ولعل ( مَدَن ) هو المشتق من المدينة لا العكس ،وأيّاً ما كان فالأظهر أن ميم مدينة أصلية ولذلك جمعت على مدائن بالهمزة كما قالوا ( صَحَائف ) جمع صحيفة .ولو كانت مَفْعَلة من دانه لقالوا في الجمع مداين بالياء مثل معايش .
ومداين مصر في ذلك الزمن كثيرة وسنذكر بعضها عند قوله تعالى:{ فأرسل فرعون في المدائن حاشرين} في سورة الشعراء ( 53 ) .قيل أرادوا مدائن الصعيد وكانت مقر العلماء بالسحر .والحاشرون الذين يحشرون الناس ويجمعونهم .
والشأن أن يكون ملأ فرعون عقلاءَ أهلَ سياسة ،فعلموا أن أمر دعوة موسى لا يكاد يخفى .وأن فرعون إنْ سجنه أو عاند ،تحقق الناس أن حجة موسى غلبت ،فصار ذلك ذريعة للشك في دين فرعون ،فرأوا أن يلاينوا موسى ،وطمعوا أن يوجد في سحَرة مصر من يدافع آيات موسى ،فتكون الحجة عليه ظاهرة للناس .