جملة:{ قال الملأ} عطف على جملة:{ قال فرعون آمنتم به}[ الأعراف: 123] أو على جملة{ قال الملأ من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم}[ الأعراف: 109] .وإنما عطفت ولم تفصل لأنها خارجة عن المحاورة التي بين فرعون ومن آمن من قومه بموسى وآياته ،لأن أولئك لم يعرجوا على ذكر ملأ فرعون ،بل هي محاورة بين ملإ فرعون وبينه في وقت غير وقت المحاورة التي جرت بين فرعون والسحرة ،فإنهم لمّا رأوا قلة اكتراث المؤمنين بوعيد فرعون ،ورأوا قلة اكتراث المؤمنين بوعيد فرعون ،ورأوا نهوض حجتهم على فرعون وإفحامَه .وأنه لم يَحرْ جَوَاباً .راموا إيقاظ ذهنه ،وإسعارَ حميته ،فجاءوا بهذا الكلام المثير لغضب فرعون ،ولعلهم رأوا منه تأثراً بمعجزة موسى وموعظة الذين آمنوا من قومه وتوقعوا عدوله عن تحقيق وعيده ،فهذه الجملة معترضة بين ما قبلها وبين جملة:{ قال موسى لقومه استعينوا بالله} .
والاستفهام في قوله:{ أتذر موسى} مستعمل في الإغراء بإهلاك موسى وقومه والإنكار على الإبطاء بإتلافهم ،وموسى مفعول{ تذر} أي تتركه متصرفاً ولا تأخذ على يده .
والكلام على فعل{ تذر} تقدم في قوله:{ وذر الذين اتخذوا دينهم لعباً} في الأنعام ( 70 ) .
وقوم موسى هم من آمن به ،وأولئك هم بنوا إسرائيل كلهم ومَن آمن من القبط .
واللام في قوله:{ ليفسدوا} لام التعليل وهو مبالغة في الإنكار إذ جعلوا ترك موسى وقومه معللاً بالفساد ،وهذه اللام تسمى لام العاقبة ،وليست العاقبة معنى من معاني اللام حقيقة ولكنها مجاز: شُبه الحاصل عقب الفعل لا محالة بالغرض الذي يفعل الفعل لتحصيله ،واستعير لذلك المعنى حرفُ اللام عوَضاً عن فاء التعقيب كما في قوله تعالى:{ فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزناً}[ القصص: 8] .
والإفساد عندهم هو إبطال أصول ديانتهم وما ينشأ عن ذلك من تفريق الجماعة وحث بني إسرائيل على الحرية ،ومغادرة أرض الاستعباد .
و{ الأرض} مملكة فرعون وهي قطر مصر .
وقوله:{ ويذَرَك} عطف على{ ليفسدوا} فهو داخلي التعليل المجازي ،لأنّ هذا حاصل في بقائهم دون شك ،ومعنى تركهم فرعون ،تركهم تأليهه وتعظيمه ،ومعنى ترك آلهته نبذُهم عبادتَها ونهيُهم الناس عن عبادتها .
والآلهة جمع إله ،ووزنه أفعلة ،وكان القبط مشركين يعبدون آلهة متنوعة من الكواكب والعناصر وصوروا لها صوراً عديدة مختلفة باختلاف العصور والأقطار ،أشهرها ( فتاح ) وهو أعظمها عندهم وكان يُعبد بمدينة ( مَنْفيس ) ،ومنها ( رع ) وهو الشمس وتتفرع عنه آلهة باعتبار أوقات شعاع الشمس ،ومنها ( ازيريس ) و ( إزيس ) و ( هوروس ) وهذا عندهم ثالوث مجموع من أب وأم وابن ،ومنها ( توت ) وهو القمر وكان عندهم رب الحكمة ،ومنها ( أمُون رع ) فهذه الأصنام المشهورة عندهم وهي أصل إضلال عقولهم .
وكانت لهم أصنام فرعية صغرى عديدة مثل العجل ( إيبيس ) ومثل الجعران وهو الجُعل .
وكان أعظم هذه الأصنام هو الذي ينتسب فرعونُ إلى بُنوتهِ وخدمته ،وكان فرعون معدوداً ابنَ الآلهة وقد حلت فيه الإلهية على نحو عقيدة الحلول ،ففرعون هو المنفذ للدين ،وكان يعد إله مصر ،وكانت طاعته طاعة للآلهة كما حكى الله تعالى عنه:{ فقال أنا ربكم الأعلى}[ النازعات: 24]{ ما علمْتُ لكم من إله غيري}[ القصص: 38] .وتوعُد فرعون موسى وقومه بالاستئصال بقتل الأبناء والمراد الرجال بقرينة مقابلته بالنساء ،والضمير المضاف إليه عائد على موسى وقومه ،فالإضافة على معنى ( من ) التبعيضية .
وقرأ نافع وابن كثير ،وأبو جعفر:{ سنقتل} بفتح النون وسكون القاف وضم التاء وقرأه البقية بضم النون وفتح القاف وتشديد التاء للمبالغة في القتل مبالغة كثرة واستيعاب .
والاستحياء: مبالغة في الإحياء ،فالسين والتاء فيه للمبالغة ،وإخباره ملأه باستحياء النساء تتميم لا أثر له في إجابة مقترح ملئه ،لأنهم اقترحوا عليه أن لا يُبقي موسى وقومه فأجابهم بما عزم عليه في هذا الشأن ،والغرض من استبقاء النساء أن يتخذوهن سراري وخدماً .
وجملة:{ وإنّا فوقهم قاهرون} اعتذار من فرعون للملإ من قومه عن إبطائه باستئصال موسى وقومه ،أي: هم لا يقدرون أن يفسدوا في البلاد ولا أن يخرجوا عن طاعتي والقاهر: الغالب بإذلال .
و{ فوقهم} مستعمل مجازاً في التمكن من الشيء وكلمة{ فوقهم} مستعارة لاستطاعة قهرهم لأن الاعتلاء على الشيء أقوى أحوال التمكن من قهره ،فهي تمثيلية .