{أَتَذَرُ}: أتدع ،أتترك .
موسى في حواره مع قومه بعد تهديد فرعون
وبدأ عرش فرعون يهتزّ أمام هذه الصدمة العنيفة ،واستطاع موسى أن يستوعب قومه في أجواء عاطفيّةٍ تثير الأمل في نفوسهم ،وتوحي بالإيمان بأفكارهم .وربما بدأوا يلتفّون حوله تحت تأثير تلك الأجواء ،وربما رأى قوم فرعون بعضاً من هذا الالتفاف العاطفي الجديد ،وربما سمعوا عنه شيئاً من جواسيسهم ،إن لم يكونوا قد رأوه ،وأخذوا يفكرون ماذا يفعلون بهذا التطور المخيف ،وكيف يواجهونه ليقضوا عليه في بداياته الأولى ؟وكان هناك حديثٌ بينهم وبين فرعون لإثارته ضدَّ موسى وقومه ،وقد لا يكون بحاجةٍ إلى مثل هذه الإثارة ،لأن صدمته العنيفة كانت كفيلةً باستثارته على المدى الطويل .
منطق الطغاة من الحاكمين
{وَقَالَ الْمَلاَُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ في الأرضِ} ؟وذلك هو منطق الطغاة من الحاكمين في ما يثيرونه من قضايا الإصلاح والإفساد ،فينظرون إلى كل عمل يدعم حكمهم أو نظامهم ،ويهيّىء له سبل الاستقرار والاستمرار ،على أنه من أعمال البناء والإصلاح ،وينظرون إلى أيِّ عمل ينقضه ويعمل على تغييره ،ويساهم في إثارة الأجواء ضده ،ويتحرك باتجاه زلزلة قواعده وهزِّ أركانه ،على أنه من أعمال الهدم والإفساد… وفي ضوء هذا ،كان هؤلاء القوم يعتبرون الدّعوة إلى توحيد الله ،ونبذ الشرك ،ومحاربة الطغيان ،والقضاء على الظلم ،وغير ذلك من المفاهيم الرسالية التي يدعو إليها موسى ،ويسير عليها مع المؤمنين من قومه ،إفساداً في الأرض ،لأنه إطلاقٌ من أجل التغيير الذي لا يبقى معه أحدٌ من أصحاب الامتيازات الزائفة الظالمة ،ولا يذر أيّ إله في الأرض غير الله ،سواءٌ كان فرعون ،أو ما كان يعبده من آلهة وأصنام .وهذا ما أراد قومه أن ينذروه به .{وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} في وحدة موحشة قاتلةٍ ،ليس معك أحد من هؤلاء الذين كانوا يتّبعونك ،ويتعبدون لك ولآلهتك .
وجاء المنطق الفرعوني الذي هو منطق الطغاة ،{قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَآءهُمْ} فلا يبقى منهم أحد يقوى على المواجهة وحمل السلاح ،لأن الذكور هم وقود الحرب عادةً ،{وَنَسْتَحْيِى نِسَآءهُمْ} فنبقيهنّ كإماءٍ وخدم .وماذا تغني النساء شيئاً لموسى ولأخيه ؟ولن يبقى هناك أحدٌ في هذا الاتجاه ،ولن يبقى إلا نحن ،نحن الأقوياء الحاكمون .{وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} فنحن نملك القوة القاهرة من السلاح والمال والملك والرجال ،فأين يكون هؤلاء المستضعفون ،وكيف يمكنهم أن يثبتوا أمام كلّ هذه القوة ،وكل هذا الجبروت ؟!