{ قالوا} حكاية جواب قوم موسى إياه ،فلذلك فصلت جملة القول على طريقة المحاورة ،وهذا الخبر مستعمل في الشكاية واستئثارتهم موسى ليدعو ربه أن يفرج كربهم .
والإيذاء: الإصابة بالأذى ،والأذى ما يؤلم ويحزن من قول أو فعل ،وقد تقدم عند قوله تعالى:{ لن يضروكم إلاّ أذى} في سورة آل عمران ( 111 ) ،وقوله:{ فصَبروا على ما كُذبوا وأوذوا} في سورة الأنعام ( 34 ) ،وهو يكون ضعيفاً وقوياً ،ومرادهم هنا القوي منه ،وهو ما لحقهم من الاستعباد وتكليفهم الأعمال الشاقة عليهم في خدمة فرعون وما توعدهم به فرعون بعد بعثة موسى من القطع والصلب وقتل الأبناء ،وكأنهم أرادوا التعريض بنفاد صبرهم وأن الأذى الذي مسهم بعد بعثة موسى لم يكن بداية الأذى ،بل جاء بعد طول مدة في الأذى ،فلذلك جمعوا في كلامهم ما لحقهم قبل بعثة موسى .
وقد توهم بعض المفسرين أن هذا امتعاض منهم مما لحقهم بسبب موسى وبواسطته مستنداً إلى أن قتل الذكور منهم كان قبل مجيء موسى بسبب توقع ولادة موسى ،وكان الوعيد بمثله بعد مجيئه بسبب دعوته ،وليس ذلك بمتجه لأنه لو كان هو المراد لما كان للتعبير بقوله:{ من قبل أن تأتينا} موقع ،والإتيان والمجيء مترادفان ،فذكر المجيء بعد الإتيان ليس لاختلاف المعنى ،ولكنه للتفنن وكراهية إعادة اللفظ .
والإتيان والمجيء مدلولهما واحد ،وهو بعثة موسى بالرسالة ،فجعل الفعل المعبّر عنه حين عُلق به ( قبل ) بصيغة المضارع المقترن ب ( أن ) الدالة على الاستقبال والمصدرية لمناسبة لفظ ( قبل ) لأن ما يضاف إلى ( قبل ) مستقبل بالنسبة لمدلولها ،وجُعل حين علق به ( بعد ) بصيغة الماضي المقترن بحرف ( مّا ) المصدرية لأن ( ما ) المصدرية لا تفيد الاستقبال ليناسب لفظ ( بعد ) لأن مضاف كلمة ( بعد ) ماض بالنسبة لمدلولها .
فأجابهم موسى بتقريب أن يكونوا هم الذين يرثون مُلك الأرض والذين تكون لهم العاقبة .
وجاء بفعل الرجاء دون الجزم تأدباً مع الله تعالى ،وإقصاء للاتكال على أعمالهم ليزدادوا من التقوى والتعرض إلى رضى الله تعالى ونصره .فقوله:{ عسى ربكم أن يهلك عدوكم} ناظر إلى قوله:{ إن الأرض لله}[ الأعراف: 128] وقوله:{ ويَسْتخلفَكم في الأرض} ناظر إلى قوله{ والعاقبة للمتقين}[ الأعراف: 128] .
والمراد بالعدو ،فرعون وحزبه ،فوصفُ عدو يوصف به الجمع قال تعالى:{ هم العدو}[ المنافقون: 4] .
والمراد بالاستخلاف: الاستخلاف عن الله في مُلك الأرض .والاستخلاف إقامة الخليفة ،فالسين والتاء لتأكيد الفعل مثل استجاب له ،أي جعلهم أحراراً غالبين ومؤسسين ملكاً في الأرض المقدسة .
ومعنى{ فينظر كيف تعملون} التحذير من أن يعملوا ما لا يرضي الله تعالى ،والتحريض على الاستكثار من الطاعة ليستحقوا وصف المتقين ،تذكيراً لهم بأنه عليم بما يعملونه .
فالنظر مستعمل في العلم بالمرئيات ،والمقصود بما{ تعملون} عملهم مع الناس في سياسة ما استخلفوا فيه ،وهو كله من الأمور التي تشاهد إذ لا دخل للنيات والضمائر في السياسة وتدبير الممالك ،إلاّ بمقدار ما تدفع إليه النيات الصالحة من الأعمال المناسبة لها ،فإذا صدرت الأعمال صالحة كما يرضي الله ،وما أوصى به ،حصل المقصود ،ولا يضرها ما تكنه نفس العامل .
و ( كيف ) يجوز كونها استفهاماً فهي معلّقة لفعل ( ينظرُ ) عن المفعول ،فالتقدير فينظر جواب السؤال ب{ كيف تعملون} ،ويجوز كونها مجردة عن معنى الاستفهام دالة على مجرد الكيفية ،فهي مفعول به ل{ ينظرَ} كما تقدم في قوله تعالى:{ هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء} في سورة آل عمران ( 6 ) ،وقوله تعالى:{ انظْر كيف نبين لهم الآيات} في سورة المائدة ( 75 ) وقد تقدم .