انهزاميّة قوم موسى( ع )
ولم يكن قوم موسى قد بلغوا هذا المستوى من الوعي الذي يفهم معنى المرحلة في خطّ الهدف ،ومعنى الصبر في الوصول إلى الغاية ،ومعنى التوكل على الله في الانطلاق نحو غيب المستقبل بقوة ،فكانوا يتألمون مما يلاقونه من آلام بعد أن ساروا مع موسى ،ويرون أن الحال لم يتغير ،فقد كانوا يعيشون الآلام من قبل موسى ،وها هي الآلام تمتد بهم معه ،فماذا انتفعوا به ؟فلا تزال المشكلة هي المشكلة والواقع هو الواقع .{قَالُواْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا} إنه منطق الضعفاء الذين لا يعرفون معنى حركة القوة في الداخل من أجل تنمية روح التحدي في الواقع ،فهم لا يتعاملون مع القضايا التي يعيشونها من موقع العلاقة بالأهداف البعيدة للحياة ،بل يتعاملون معها من موقع المشاعر والانفعالات في ما تختزنه من هموم وآلام .إنهم يعيشون في جوّ الإحساس دون التفكير في مضمون المشكلة ،إذ يجب أن يعرفوا أن هناك فرقاً بين الإيذاء الذي يتعرض له الإنسان وهو لا يحمل قضيّة ،فيزيده الأذى شعوراً بالانسحاق ،لأنه يحجز إحساسه بالألم الذي لحق به في اللحظة الحاضرة ،وبين الإيذاء الذي يتعرض له وهو يحمل قضيةً ويتحرك من أجل رسالة ،فيزيده الأذى شعوراً بالقوّة ،لأنه يضاعف معنى التحدّي في مشاعره وأحاسيسه في عمليّة إيمانٍ بالقضية الكبيرة التي لا بدّ لها أن تستمر لتحل المشكلة من جذورها بعيداً عن كلّ عوامل التخدير ...
موسى يزرع الأمل في قلوب قومه
ولهذا ،فإن مثل هذا الاتجاه لا يرتاح لعملية التهدئة ،بل ينطلق دائماً في أجواء التثوير ،لأنّ المسألة ليست مسألة ذاتٍ تريد أن تستريح ،بل هي مسألة أمَّةٍ تريد أن تتحرّر وتتقدم ،ومسألة واقعٍ يريد أن يتغير ،وهذا ما أراد موسى أن يثيره في الانفتاح على الله في أوقات الشدّة ،وفي الثقة بوعده في حالات الضيق ،فذلك هو الذي يجدّد في الإنسان روح القوة ،ويبعث في روحه معنى الأمل ...{قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ} كما أهلك الطغاة من قبله بالطريقة المباشرة أو غير المباشرة ،فقد أعدّ الله للطغاة مصيراً لا يستطيعون الهروب منه ،ولكنّ لكلّ شيءٍ وقتاً لا يتعداه تبعاً لما أودعه الله في حركة الحياة من أسرار حكمته ،فليكن أملنا بالله كبيراً ،ونحن نعمل في سبيل تهيئة الظروف التي تتحقق فيها إرادته بالنصر .
{وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأرضِ} ،فقد وعد الله المستضعفين أن يستخلفهم في الأرض ،والله لا يخلف وعده ،ولكنّ قضية الاستخلاف في الأرض ليست امتيازاً لأحد ،بل هي المسؤولية الواعية من أجل تغيير الواقع على الأسس الإيمانية التي تُصلحُ أمر البلاد والعباد ،بعيداً عن الأسس الاستكبارية الكافرة التي تفسد الحياة كلها بخطط الكفر والضلال ،ولهذا فإن المسألة تعيش في نطاق الامتحان والاختبار ،لما تحملون من عقيدةٍ ،ولما تعيشونه من مفاهيم ،ولما تتحركون به من خططٍ وأهداف ،ليُعْرَفَ الصادقون من الكاذبين ،والمخلصون من المنافقين ....{فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} في ما تمارسونه في خلافتكم على مستوى الحكم في إدارة شؤون الناس والحياة ...وتلك هي قصة الحكم في المفهوم الديني للإنسان ؛إنها قصة التغيير ،وتحويل المسيرة من خطّ الظلم إلى خطّ العدل ،ومن شريعة الكفر إلى شريعة الإيمان ،وليست عملية تبديل أسماءٍ وتغيير واجهاتٍ ،لنبرّر الظلم باسم العدل ،وننطلق مع الكفر باسم الإيمان .