ردع ثان على قول الإِنسان{ أيَّانَ يوم القيامة}[ القيامة: 6] ،مؤكِّد للردع الذي قبله في قوله:{ كَلاَّ بل تحبّون العاجلة}[ القيامة: 20] .ومعناه زجر عن إحالة البعث فإنه واقع غير بعيد فكل أحد يشاهده حين الاحتضار للموت كما يؤذن به قوله:{ إلى ربك يومئذٍ المَساق} أُتبع توصيف أشراط القيامة المباشرة لحلوله بتوصيف أشراط حلول التهيُّؤِ الأول للقائه من مفارقة الحياة الأولى .
وعن المغيرة بن شعبة يقولون: القيامة القيامةُ ،وإنما قيامة أحدهم موته ،وعن علقمة أنه حضر جنازة فلما دفن قال: « أمَّا هذا فقد قامت قيامته » ،فحالة الاحْتضار هي آخر أحوال الحياة الدنيا يَعقبها مصير الروح إلى تصرف الله تعالى مباشرةً .
وهو ردع عن إيثار الدنيا على الآخرة كأنه قيل: ارتدعوا وتنبهوا على ما بَيْن أيديكم من الموت الذي عنده تنقطع العاجلة وتنتقلون إلى الآجلة ،فيكون ردعاً على محبة العاجلة وترك العناية في الآخرة ،فليس مؤكداً للردع الذي في قوله:{ كلا بل تحبون العاجلة}[ القيامة: 20] بل هو ردع على ما تضمنه ذلك الردع من إيثار العاجلة على الآخرة .
و{ إذا بلغت التراقي} متعلق بالكون الذي يُقدر في الخبر وهو قوله:{ إلى ربك} .والمعنى: المساق يكون إلى ربك إذا بلغت التراقي .
وجملة{ إلى ربك يومئذٍ المساق} بيان للردع وتقريب لإِبطال الاستبعاد المحكي عن منكري البعث بقوله:{ يسأل أيّان يوم القيامة}[ القيامة: 6] .
و{ إذا} ظرف مضمن معنى الشرط ،وهو منتصب بجوابه أعني قوله:{ إلى ربك يومئذٍ المساق} .
وتقديم{ إلى ربك} على متعلقه وهو{ المساق} للاهتمام به لأنه مناط الإِنكار منهم .
وضمير{ بلغت} راجع إلى غير مذكور في الكلام ولكنه معلوم من فعل{ بلغَتْ} ومن ذكر{ التراقي} فإن فعل{ بلغت التراقي} يدل أنها روح الإنسان .والتقدير: إذا بلغت الروحُ أو النفس .وهذا التقدير يدل عليه الفعل الذي أسند إلى الضمير بحسب عرف أهل اللسان ،ومثله قول حاتم الطائي:
أمَاوِيَّ ما يغني الثَّراء عن الفتى *** إذا حَشْرَجَتْ يوماً وضاق بهَا الصدر
أي إذا حشرجت النفس .ومن هذا الباب قول العرب « أرْسَلَتْ » يريدون: أرسلت السماء المطر ،ويجوز أن يقدر في الآية ما يدل عليه الواقع .
والأنفاسُ: جمع نفَس ،بفتح الفاء ،وهو أنسب بالحقائق .
و{ التراقي}: جمع تَرْقُوة ( بفتح الفوقية وسكون الراء وضم القاف وفتح الواو مخففة وهاء تأنيث ) وهي ثُغرة النحر ،ولكل إنسان ترقوتان عن يمينه وعن شماله .
فالجمع هنا مستعمل في التثنية لقصد تخفيف اللفظ وقد أُمِن اللبس ،لأن في تثنية ترقوة شيئاً من الثقل لا يناسب أفصح كلام ،وهذا مِثل ما جاء في قوله تعالى:{ فقد صغت قلوبكما} في سورة[ التحريم: 4] .
ومعنى{ بلغتْ التراقي}: أن الروح بلغت الحُنْجُرة حَيث تخرج الأنفاس الأخيرة فلا يسمع صوتها إلاّ في جهة الترقوة وهي آخر حالات الاحتضار ،ومثله قوله تعالى:
{ فلولا إذا بلغت الحُلقوم} الآية[ الواقعة: 83] .
واللام في{ التراقي} مثل اللام في المساق فيقال: هي عوض عن المضاف إليه ،أي بلغت روحه تَرَاقِيَه ،أي الإِنساننِ .