تفسير هذه الآية معضل وكلمات المفسرين والمتأوِلين فيها بعضها جَافَّ المَنال ،وبعضها جاففٍ عن الاستعمال .ذلك أن المعروف في{ كلاَّ} أنه حرف ردع وزجر عن كلام سابق أو لاحق ،وليس فيما تضمنه ما سبقها ولا فيما بعدها ما ظاهره أن يُزجر عنه ولا أن يُبطل ،فتعين المصير إلى تأويل مورد{ كَلاَّ} .
فأما الذين التزموا أن يكون حرف{ كَلاَّ} للردع والزجر وهم الخليل وسيبويه وجمهور نحاة البصرة ويجيزون الوقف عليها كما يجيزون الابتداء بها ،فقد تأولوا هذه الآية وما أشبهها بتوجيه الإِنكار إلى ما يُومىء إليه الكلام السابق أو اللاحق دون صريحه ولا مضمونه .
فمنهم من يجعل الردع متوجهاً إلى ما قبل{ كَلاَّ} ممّا يومىء إليه قوله تعالى:{ ثم إذا شاء أنشره}[ عبس: 22] ،أي إذا شاء الله ،إذ يومىء إلى أن الكافر ينكر أن ينشره الله ويعتلَّ بأنه لم ينشر أحداً منذ القدم إلى الآن .وهذا الوجه هو الجاري على قول البصريين كما تقدم .
وموقع{ كَلاَّ} على هذا التأويل موقع الجواب بالإِبطال ،وموقع جملة:{ لما يقض ما أمره} موقع العلة للإِبطال ،أي لو قَضَى ما أمره الله به لعِلم بطلان زعمه أنه لا ينشر .
وتأوله في « الكشاف » بأنه: « ردْع للإِنسان عما هو عليه » أي مِمَّا ذكر قبله من شدة كفره واسترساله عليه دون إقلاع ،يريد أنه زجر عن مضمون:{ ما أكفره}[ عبس: 17] .
ومنهم من يجعل الردع متوجهاً إلى ما بعد{ كلاّ} مما يومىء إليه قوله تعالى:{ لما يقض ما أمره} أي ليس الأمر كما يقول هذا الإِنسان الكافر من أنه قد أدى حق الله الذي نبهه إليه بدعوة الرسل وبإيداع قوة التفكير فيه ،ويُتسروح هذا من كلام روي عن مجاهد ،وهو أقرب لأن ما بعد{ كَلاَّ} لما كان نفياً ناسب أن يُجعل{ كلاّ} تمهيداً للنفي .
وموقع{ كلاّ} على هذا الوجه أنها جزء من استئناف .
وموقع جملة:{ لما يقض ما أمره} استئناف بياني نشأ عن مضمون جملة:{ من أي شيء خلقه} إلى قوله:{ أنشره}[ عبس: 18 22] ،أي إنما لم يَهتد الكافرُ إلى دلالة الخلق الأول على إمكاننِ الخلق الثاني ،لأنه لم يقض حق النظر الذي أمره الله .
وأما الذين لم يلتزموا معنى الزجر في{ كلاّ} وهم الكسائي القائل: تكون{ كلاّ} بمعنى حقاً ،ووافقه ثعلب وأبو حاتم السجستاني القائل: تكون{ كلا} بمعنى ( ألاّ ) الاستفتاحية .
والنضر بن شميل والفرّاء القائلان: تكون{ كلاّ} حَرفَ جواب بمعنى نعم .فهؤلاء تأويل الكلام على رأيهم ظاهر .
وعن الفراء{ كلاّ} تكون صلة ( أي حرفاً زائداً للتأكيد ) كقولك: كلاَّ ورب الكعبة ا ه .وهذا وجه إليه ولا يتأتى في هذه الآية .
فالوجه في موقع{ كلاّ} هنا أنه يجوز أن تكون زجراً عما يفهم من قوله:{ ثم إذا شاء أنشره}[ عبس: 22] المكنى به عن فساد استدلالهم بتأخيره على أنه لا يقع فيكون الكلام على هذا تأكيداً للإِبطال الذي في قوله:{ كلا إنها تذكرة}[ عبس: 11] باعتبار معناه الكنائي إن كان صريح معناه غيرَ باطل فقوله:{ إذا شاء} مؤذن بأنه الآن لم يشأ وذلك مؤذن بإبطال أن يقع البعث عندما يسألون وقوعه ،أي أنا لا نشاء إنشارهم الآن وإنما ننشرهم عندما نشاء ممّا قدرنا أجله عند خلق العالم الأرضي .
وتكون جملة:{ لما يقض ما أمره} تعليلاً للردع ،أي الإنسان لم يستتم ما أجل الله لبقاء نوعه في هذا العالم من يوم تكوينه فلذلك لا ينشر الآن ،ويكون المراد بالأمر في قوله:{ ما أمره} أمر التكوين ،أي لم يستتم ما صدر به أمر تكوينه حين قيل لآدم:{ ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين}[ البقرة: 36] .
ويجوز أن يكون زجراً عما أفاده قوله:{ لما يقض ما أمره} وقدمت{ كلاّ} في صدر الكلام الواردة لإبطاله للاهتمام بمبادرة الزجر .
وتقدم الكلام في{ كلاّ} في سورة مريم وأحَلْتُ هنالك على ما هنا .
و{ لَمَّا} حرف نفي يدل على نفي الفعل في الماضي مثل ( لَمْ ) ويزيد بالدلالة على استمرار النفي إلى وقت التكلم كقوله تعالى:{ ولما يدخل الإيمان في قلوبكم}[ الحجرات: 14] .
والمقصود أنه مستمر على عدم قضاء ما أمره الله مِما دعاه إليه .
والقضاء: فعل ما يجب على الإنسان كاملاً لأن أصل القضاء مشتق من الإتمام فتضمن فعلاً تاماً ،أي لم يزل الإنسان الكافر معرضاً عن الإيمان الذي أمره الله به ،وعن النظر في خلقه من نطفة ثم تطوره أطواراً إلى الموت قال تعالى:{ فلينظر الإنسان مما خلق}[ الطارق: 5] ،وما أمره من التدَبر في القرآن ودلائله ومن إعمال عقله في الاستدلال على وحدانية الله تعالى ونفي الشريك عنه .ومن الدلائل نظره في كيفية خلقه فإنها دلائل قائمة بذاته فاستحق الردع والزجر .
والضمير المستتر في{ أمره} عائد إلى ما عادت إليه الضمائر المستترة في ( خلقه ،وقدره ،ويسره ،وأماته ،وأقبره ،وأنشره ) .