قد عرفت أن الأمر بالتسبيح في قوله:{ سبح اسم ربك الأعلى}[ الأعلى: 1] بشارة إجمالية للنبيء صلى الله عليه وسلم بخير يحصل له ،فهذا موقعُ البيان الصريح بوعده بأنه سيعصمه من نسيان ما يُقرئه فيبلِّغُه كما أوحي إليه ويحفظه من التفلت عليه ،ولهذا تكون هذه الجملة استئنافاً بيانياً لأن البشارة تنشىء في نفس النبي صلى الله عليه وسلم ترقباً لوعد بخير يأتيه فبشره بأنه سيزيده من الوحي ،مع ما فرَّع على قوله:{ سنقرئك} من قوله:{ فلا تنسى} .
وإذ قد كانت هذه السورة من أوائل السور نزولاً .وقد ثبت في الصحيح عن ابن عباس: « أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعالج من التنزيل شِدة إذا نزل جبريل ،وكان ممَّا يحرك شفتيْه ولسانَه ،يريد أن يحفظه ويخشى أن يتفلت عليه فقيل له:{ لا تحرّك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه}[ القيامة: 16 ،17] ،إنّ علينا أن نجمعه في صدرك وقرآنه أن تقرأه:{ فإذا قرأناه فاتبع قرآنه}[ القيامة: 18] .يقول: إذا أُنزل عليك فاستمع ،قال: فكان إذا أتاه جبريل أطرق فإذا ذهب قرأه كما قرأ جبريل كما وعده الله » وسورة القيامة التي منها{ لا تحرك به لسانك} نزلت بعد سورة الأعلى فقد تعين أن قوله:{ سنقرئك فلا تنسى} وعد من الله بعَونه على حفظ جميع ما يُوحى إليه .
وإنما ابتدىء بقوله:{ سنقرئك} تمهيداً للمقصود الذي هو:{ فلا تنسى} وإدماجاً للإِعلام بأن القرآن في تزايد مستمر ،فإذا كان قد خاف من نسيان بعض ما أُوحي إليه على حين قِلَّته فإنه سيتتابع ويتكاثر فلا يخش نسيانه فقد تكفل له عدم نسيانه مع تزايده .
والسين علامة على استقبال مدخولها ،وهي تفيد تأكيد حصول الفعل وخاصةً إذا اقترنت بفعل حاصل في وقت التكلم فإنها تقتضي أنه يستمر ويتجدد وذلك تأكيد لحصوله وإذ قد كان قوله:{ سنقرئك فلا تنسى} إقراءً ،فالسين دالة على أن الإِقراء يستمر ويتجدد .
والالتفات بضمير المتكلم المعظَّم لأن التكلّم أنسب بالإِقبال على المبشَّر .
وإسناد الإقراء إلى الله مجاز عقلي لأنه جاعل الكلام المقروء وآمر بإقرائه .
فقوله:{ فلا تنسى} خبر مراد به الوعد والتكفل له بذلك .
والنسيان: عدم خطور المعلوم السابق في حافظة الإنسان برهة أو زماناً طويلاً .