فصل
وقوله:{ الذي يوسوس في صدور الناس}:
صفة ثالثة للشيطان ، فذكر وسوسته أولا ، ثم ذكر محلها ثانيا ، وأنها في صدور الناس ثالثا .
وقد جعل الله للشيطان دخولا في جوف العبد ، ونفوذا إلى قلبه وصدره ، فهو يجري منه مجرى الدم ، وقد وكل بالعبد ، فلا يفارقه إلى الممات .
وفي «الصحيحين » من حديث الزهري عن علي بن حسين ، عن صفية بنت حيي رضي الله عنها:قالت:«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم معتكفا فأتيته أزوره ليلا ، فحدثته ، ثم قمت فانقلبت ، فقام معي ليقلبني ، وكان مسكنها في دار أسامة بن زيد رضي الله عنهما ، فمر رجلان من الأنصار ، فلما رأيا النبي صلى الله عليه وسلم أسرعا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«على رسلكما ، إنها صفية بنت حيي » فقالا:سبحان الله يا رسول الله ! فقال: "إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم ، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما سوءا - أو قال – شيئا "» .
وفي «الصحيح » أيضا عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا نودي بالصلاة أدبر الشيطان وله ضراط ، فإذا قضى أقبل ، فإذا ثوب بها أدبر ، فإذا قضي أقبل ، حتى يخطر بين الإنسان وقلبه ، فيقول:اذكر كذا ، اذكر كذا – لكت لك يكن يدكر - حتى لا يدري:أثلاثا صلى أم أربعا ؟ فإذا لم يدر:أثلاثا صلى أم أربعا ؟ سجد سجدتي السهو » .
ومن وسوسته:ما ثبت في «الصحيح » عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«يأتي الشيطان أحدكم فيقول:من خلق كذا ؟ ومن خلق كذا ؟ حتى يقول:من خلق الله ؟ فمن وجد ذلك فليستعذ بالله ولينته » .
وفي «الصحيح »:أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا:«يا رسول الله ، إن أحدنا ليجد في نفسه ما لأن يخر من السماء إلى الأرض أحب إليه من أن يتكلم به . قال صلى الله عليه وسلم:«الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة » .
ومن وسوسته أيضا:أن يشغل القلب بحديثه حتى ينسيه ما يريد أن يفعله ، ولهذا يضاف النسيان إليه إضافته إلى سببه ، قال تعالى حكاية عن صاحب موسى أنه قال:{ إني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره} [ الكهف:63] ، وتأمل حكمة القرآن الكريم وجلالته كيف أوقع الاستعاذة من شر الشيطان الموصوف بأنه:{ الوسواس الخناس * الذي يوسوس في صدور الناس} ، ولم يقل:من شر وسوسته ، لتعم الاستعاذة شره جميعه . فإن قوله:{ من شر الوسواس} [ الناس:4] يعم كل شره ، ووصفه بأعظم صفاته ، وأشدها شرا ، وأقواها تأثيرا ، وأعمها فسادا ، وهي الوسوسة التي هي مبادئ الإرادة ، فإن القلب يكون فارغا من الشر والمعصية ، فيوسوس إليه ، ويخطر الذنب بباله ، فيصوره لنفسه ويمنيه ، ويشهيه ، فيصير شهوة ، ويزينها له ويحسنها ، ويخيلها له في خيال ، حتى تميل نفسه إليه ، فيصير إرادة ، ثم لا يزال يمثل ويخيل ويمني ويشهي وينسي علمه بضررها ، ويطوي عنه سوء عاقبتها ، فيحول بينه وبين مطالعته ، فلا يرى إلا صورة المعصية والتذاذه بها فقط ، وينسى ما وراء ذلك ، فتصير الإرادة عزيمة جازمة ، فيشتد الحرص عليها من القلب ، فيبعث الجنود في الطلب ، فيبعث الشيطان معهم مدادا لهم وعونا ، فإن فتروا حركهم ، وإن ونوا أزعجهم ، كما قال تعالى:{ ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا} [ مريم:83] ، أي تزعجهم إلى المعاصي إزعاجا ، كلما فتروا أو ونوا أزعجتهم الشياطين وأزتهم وأثارتهم ، فلا تزال بالعبد تقوده إلى الذنب ، وتنظم شمل الاجتماع بألطف حيلة وأتم مكيدة ، قد رضي لنفسه بالقيادة لفجرة بني آدم ، وهو الذي استكبر وأبى أن يسجد لأبيهم ، بتلك النخوة والكبر ، ولا يرضاه أن يصير قوادا لكل من عصى الله ، كما قال بعضهم:
عجبت من إبليس في تيهه *** وقبح ما أظهر من نخوته
تاه على آدم في سجدة *** وصار قوادا لذريته
فأصل كل معصية وبلاء:إنما هو الوسوسة ، فلهذا وصفه بها لتكون الاستعاذة من شرها أهم من كل مستعاذ منه ، وإلا فشره بغير الوسوسة حاصل أيضا .
فمن شره:أنه لص سارق لأموال الناس ، فكل طعام أو شراب لم يذكر اسم الله تعالى عليه فله فيه حظ بالسرقة والخطف ، وكذلك يبيت في البيت إذا لم يذكر فيه اسم الله تعالى ، فيأكل طعام الإنس بغير إذنهم ، ويبيت في بيوتهم بغير أمرهم ، فيدخل سارقا ، ويخرج مغيرا ، ويدل على عوراتهم ، فيأمر العبد بالمعصية ، ثم يلقي في قلوب الناس يقظة ومناما أنه فعل كذا وكذا .
ومن هذا:أن العبد يفعل الذنب لا يطلع عليه أحد من الناس ، فيصبح والناس يتحدثون به ، وما ذاك إلا أن الشيطان زينه له ، وألقاه في قلبه ، ثم وسوس إلى الناس بما فعل وألقاه إليهم ، فأوقعه في الذنب ، ثم فضحه به ، فالرب تعالى يستره ، والشيطان يجهد في كشف ستره وفضيحته ، فيغتر العبد ويقول:هذا ذنب لم يره إلا الله تعالى ، ولم يشعر بأن عدوه ساع في إذاعته وفضيحته ، وقل من يتفطن من الناس لهذه الدقيقة .
ومن شره:أنه إذا نام العبد عقد على رأسه عقدا تمنعه من اليقظة ، كما في صحيح البخاري ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«ويعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم - إذا هو نام - ثلاث عقد ، يضرب على كل عقدة مكانها:عليك ليل طويل فارقد ، فإن استيقظ فذكر الله انحلت عقدة . فإن توضأ انحلت عقدة ، فإن صلى انحلت عقده كلها ، فأصبح نشيطا طيب النفس ، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان » .
ومن شره:أن يبول في أذن العبد حتى ينام إلى الصباح ، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم:«أنه ذكر عنده رجل نام ليله حتى أصبح ، فقال صلى الله عليه وسلم:ذاك رجل بال الشيطان في أذنيه ، أو قال:في أذنيه » رواه البخاري .
ومن شره:أنه قعد لابن آدم بطرق الخير كلها ، فما من طريق من طرق الخير إلا والشيطان مرصد عليه يمنعه بجهده أن يسلكه ، فإن خالفه وسلكه ثبطه فيه وعوّقه ووشوش عليه بالمعارضات والقواطع ، فإن عمله وفرغ منه قيّض له ما يبطل أثره ، ويرده على حافرته .
ويكفي من شره:أنه أقسم بالله ليقعدن لبني آدم صراطه المستقيم ، وأقسم ليأتينهم من بين أيديهم ، ومن خلفهم ، وعن أيمانهم ، وعن شمائلهم .
ولقد بلغ شره أن أعمل المكيدة ، وبالغ في الحيلة ، حتى أخرج آدم من الجنة ، ثم لم يكفه ذلك حتى استقطع من أولاده شرطة للنار ، من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين ، ثم لم يكفه ذلك حتى أعمل الحيلة في إبطال دعوة الله من الأرض ، وقصد أن تكون الدعوة له ، وأن يعبد من دون الله ، فهو ساع بأقصى جهده على إطفاء نور الله ، وإبطال دعوته ، وإقامة دعوة الكفر والشرك ، ومحو التوحيد وأعلامه من الأرض .
ويكفي من شره:أنه تصدى لإبراهيم صلى الله عليه وسلم خليل الرحمن حتى رماه قومه بالمنجنيق في النار ، فرد الله تعالى كيده عليه ، وجعل النار على خليله بردا وسلاما .
وتصدى للمسيح صلى الله عليه وسلم حتى أراد اليهود قتله وصلبه ، فرد الله كيده ، وصان المسيح ورفعه إليه .
وتصدى لزكريا ويحيى عليهما السلام حتى قتلا .
واستثار فرعون حتى زين له الفساد العظيم في الأرض ، ودعوى أنه ربهم الأعلى .
وتصدى للنبي صلى الله عليه وسلم ، وظاهر الكفار على قتله بجهده ، والله تعالى يكبته ويرده خاسئا .
وتفلت على النبي صلى الله عليه وسلم بشهاب من نار ، يريد أن يرميه به وهو في الصلاة ، فجعل النبي يقول:«ألعنك بلعنة الله » .
وأعان اليهود على سحرهم للنبي صلى الله عليه وسلم .
فإذا كان هذا شأنه ، وهمته في الشر ، فكيف الخلاص منه إلا بمعونة الله وتأييده وإعاذته ؟
ولا يمكن حصر أجناس شره ، فضلا عن آحادها ، إذ كل شر في العالم فهو السبب فيه .
ولكن ينحصر شره في ستة أجناس ، لا يزال بابن آدم حتى ينال منه واحدا منها أو أكثر:
الشر الأول:( شر الكفر والشرك ، ومعاداة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ) .
فإذا ظفر بذلك من ابن آدم برد أنينه ، واستراح من تعبه معه ، وهو أول ما يريد من العبد ، فلا يزال به حتى يناله منه ، فإذا نال ذلك صيره من جنده ، وعسكره ، واستنابه على أمثاله وأشكاله ، فصار من دعاة إبليس ونُوَّابه ، فإذا يئس منه من ذلك ، وكان ممن سبق له الإسلام في بطن أمه نقله إلى:
المرتبة الثانية من الشر ( وهي البدعة ):
وهي أحب إليه من الفسوق والمعاصي ؛ لأن ضررها في نفس الدين ، وهو ضرر متعد ، وهي ذنب لا يتاب منه ، وهي مخالفة لدعوة الرسل ، ودعا إلى خلاف ما جاءوا به ، وهي باب الكفر والشرك ، فإذا نال منه البدعة ، وجعله من أهلها بقي أيضا نائبه ، وداعيا من دعائه .
فإن أعجزه من هذه المرتبة ، وكان العبد ممن سبقت له من الله موهبة السنة ، ومعاداة أهل البدع والضلال ، نقله إلى:
المرتبة الثالثة من الشر ( وهي الكبائر ):
على اختلاف أنواعها ، فهو أشد حرصا على أن يوقعه فيها ، ولاسيما إن كان عالما متبوعا ، فهو حريص على ذلك ، لينفر الناس عنه ، ثم يشيع من ذنوبه ومعاصيه في الناس ، ويستنيب منهم من يشيعها ويذيعها ، تدينا وتقربا بزعمه إلى الله تعالى ، وهو نائب إبليس ولا يشعر ، ف{ إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة} [ النور:19] ، هذا إذا أحبوا إشاعتها وإذاعتها . فكيف إذا تولوا هم إشاعتها وإذاعتها ، لا نصيحة منهم ، ولكن طاعة لإبليس ونيابة عنه ، كل ذلك لينفر الناس عنه ، وعن الانتفاع به .
وذنوب هذا - ولو بلغت عنان السماء – هي أهون عند الله من ذنوب هؤلاء ، فإنها ظلم منه لنفسه ، إذا استغفر الله وتاب إليه قبل الله توبته ، وبدل سيئاته حسنات .
وأما ذنوب أولئك:فظلم للمؤمنين ، وتتبع لعورتهم ، وقصد لفضيحتهم ، والله سبحانه بالمرصاد ، لا تخفى عليه كمائن الصدور ، ودسائس النفوس .
فإن عجز الشيطان عن هذه المرتبة نقله إلى المرتبة الرابعة:( وهي الصغائر ) التي إذا اجتمعت فربما أهلكت صاحبها ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«إياكم ومحقرات الذنوب ، فإن مثل ذلك مثل قوم نزلوا بفلاة من الأرض . . . » وذكر حديث معناه:أن كل واحد منهم جاء بعود حطب ، حتى أوقدوا نارا عظيمة ، فطبخوا واشتووا .
ولا يزال يسهل عليه أمر الصغائر حتى يستهين بها ، فيكون صاحب الكبيرة الخائف منها أحسن حالا منه .
فإن أعجزه العبد من هذه المرتبة نقله إلى المرتبة الخامسة ، ( وهي إشغاله بالمباحات ) التي لا ثواب فيها ولا عقاب ؛ بل عاقبتها فوت الثواب الذي ضاع عليه باشتغاله بها .
فإن أعجزه العبد من هذه المرتبة ، وكان حافظا لوقته ، شحيحا به ، يعلم مقدار أنفاسه وانقطاعها ، وما يقابلها من النعيم والعذاب ، نقله إلى المرتبة السادسة ( وهي:أن يشغله بالعمل المفضول عما هو أفضل منه ) ، ليزيح عنه الفضيلة ، ويفوته ثواب العمل الفاضل ، فيأمره بفعل الخير المفضول ، ويحضه عليه ، ويحسنه له إذا تضمن ترك ما هو أفضل وأعلى منه ، وقل من يتنبه لهذا من الناس ، فإنه لا يكاد يقول:إن هذا الداعي من الشيطان ، فإن الشيطان لا يأمر بخير ، ويرى أن هذا خير ، فيقول:هذا الداعي من الله ، وهو معذور ، ولم يصل علمه إلى أن الشيطان يأمر بسبعين بابا من أبواب الخير ، إما ليتوصل بها إلى باب واحد من الشر ، وإما ليفوت بها خيرا أعظم من تلك السبعين بابا ، وأجل وأفضل .
وهذا لا يتوصل إلى معرفته إلا بنور من الله يقذفه في قلب العبد ، يكون سببه تجريد متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وشدة عنايته بمراتب الأعمال عند الله ، وأحبها إليه ، وأرضاها له ، وأنفعها للعبد ، وأعمها نصيحة لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم ، ولكتابه ، ولعباده المؤمنين ، خاصتهم وعامتهم ، ولا يعرف هذا إلا من كان من ورثة الرسول صلى الله عليه وسلم ونوابه في الأمة ، وخلفائه في الأرض . وأكثر الخلق محجوبون عن ذلك ، فلا يخطر بقلوبهم . والله تعالى يَمُنُّ بفضله على من يشاء من عباده .
فإن أعجزه العبد من هذه المراتب الست وأعيى عليه ، سلط عليه حزبه من الإنس والجن بأنواع الأذى والتكفير والتضليل والتبديع ، والتحذير منه ، وقصد إخماله وإطفائه ليشوش عليه قلبه ، ويشغل بحربه فكره ، وليمنع الناس من الانتفاع به ، فيبقى سعيه في تسليط المبطلين من شياطين الإنس والجن عليه ، ولا يفتر ولا يني ، فحينئذ يلبس المؤمن لأمَةَ الحرب ، ولا يضعها عنه إلى الموت ، ومتى وضعها أسر أو أصيب ، فلا يزال في جهاد حتى يلقى الله .
فتأمل هذا الفصل:وتدبر موقعه ، وعظيم منفعته ، واجعله ميزانك تزن به الناس ، وتزن به الأعمال ، فإنه يطلعك على حقائق الوجود ، ومراتب الخلق ، والله المستعان وعليه التكلان .
ولو لم يكن في هذا التعليق إلا هذا الفصل لكان نافعا لمن تدبره ووعاه .
فصل
وتأمل السر في قوله تعالى:{ يوسوس في صدور الناس} .
ولم يقل:في قلوبهم . والصدر:هو ساحة القلب وبيته ، فمنه تدخل الواردات إليه ، فتجتمع في الصدر ثم تلج في القلب ، فهو بمنزلة الدهليز له ، ومن القلب تخرج الأوامر والإرادات إلى الصدر ، ثم تتفرق على الجنود ، ومن فهم هذا فهم قوله تعالى:{ وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم} [ آل عمران:154] .
فالشيطان يدخل إلى ساحة القلب وبيته ، فيلقي ما يريد إلقاءه في القلب ، فهو موسوس في الصدر ، ووسوسته واصلة إلى القلب ، ولهذا قال تعالى:{ فوسوس إليه الشيطان} [ طه:120] ، ولم يقل «فيه » ؛ لأن المعنى أنه ألقى إليه ذلك ، وأوصله فيه فدخل في قلبه .
فصل
وقوله تعالى:{ من الجنة والناس} .
اختلف المفسرون في هذا الجار والمجرور:بم يتعلق ؟
فقال الفراء وجماعة:هو بيان للناس الموسوس في صدورهم ، والمعنى:يوسوس في صدور الناس الذين هم من الجن والإنس ، أي الموسوس في صدورهم قسمان:إنس وجن .