تضمنت هذه الآيات بيان كذبهم صريحا في إبطال النسخ . فإنه سبحانه وتعالى أخبر أن الطعام كله كان حلالا لبني إسرائيل قبل تتنزل التوراة ، سوى ما حرم إسرائيل على نفسه منه . ومعلوم أن بني إسرائيل كانوا على شريعة أبيهم إسرائيل وملته ، وأن الذي كان لهم حلالا إنما هو بإحلال الله تعالى له على لسان إسرائيل والأنبياء بعده ، إلى حين نزول التوراة ، ثم جاءت التوراة بتحريم كثير من المآكل عليهم التي كانت حلالا لبني إسرائيل . وهذا محض النسخ .
وقوله تعالى:{ من قبل أن تنزل التوراة} أي كانت حلالا لهم قبل نزول التوراة وهم يعلمون ذلك ثم قال تعالى:{ قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين} هل تجدون فيها أن إسرائيل حرم على نفسه ما حرمته التوراة عليكم ، أم تجدون فيها تحريم ما خصه بالتحريم ، وهي لحوم الإبل وألبانها خاصة ؟ وإذا كان إنما حرم هذا وحده ، وكان ما سواه حلالا له ولبنيه ، وقد حرمت التوراة كثيرا منه:ظهر كذبكم وافتراؤكم في إنكار نسخ الشرائع ، والحجر على الله تعالى في نسخها .
فتأمل هذا الوضع الشريف الذي حام حوله أكثر المفسرين ، وما وردوه ، وهذا أولى من احتجاج كثير من أهل الكلام ، عليهم بأن التوراة حرمت أشياء كثيرة من المناكح والذبائح ، والأفعال والأقوال . وذلك نسخ بحكم البراءة الأصلية . فإن هذه المناظرة ضعيفة جدا . فإن القوم لم ينكروا رفع البراءة الأصلية بالتحريم والإيجاب . إذ هذا شأن كل الشرائع . وإنما أنكروا تحريم ما أباحه الله تعالى ، فيجعله حراما ، أو تحليل ما كان حرمه فيجعله مباحا . وأما رفع البراءة والاستصحاب . فلم ينكره أحد من أهل الملل .