قال الإمام أحمد:حدثنا هاشم بن القاسم ، حدثنا عبد الحميد ، حدثنا شهر قال:قال ابن عباس [ رضي الله عنه] حضرت عصابة من اليهود نبي الله صلى الله عليه وسلم فقالوا:حدثنا عن خلال نسألك عنهن لا يعلمهن إلا نبي . قال:"سلوني عما شئتم ، ولكن اجعلوا لي ذمة الله ، وما أخذ يعقوب على بنيه لئن أنا حدثتكم شيئا فعرفتموه لتتابعني على الإسلام ". قالوا:فذلك لك . قال:"فسلوني عما شئتم "قالوا:أخبرنا عن أربع خلال:أخبرنا أي الطعام حرم إسرائيل على نفسه ؟ وكيف ماء المرأة وماء الرجل ؟ كيف هذا النبي الأمي في النوم ؟ ومن وليه من الملائكة ؟ فأخذ عليهم العهد لئن أخبرهم ليتابعنه وقال:"أنشدكم بالذي أنزل التوراة على موسى:هل تعلمون أن إسرائيل مرض مرضا شديدا وطال سقمه ، فنذر لله نذرا لئن شفاه الله من سقمه ليحرمن أحب الشراب إليه وأحب الطعام إليه ، وكان أحب الطعام إليه لحمان الإبل ، وأحب الشراب إليه ألبانها "فقالوا:اللهم نعم . قال:"اللهم اشهد عليهم ". وقال:أنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو ، الذي أنزل التوراة على موسى:هل تعلمون أن ماء الرجل أبيض غليظ ، وماء المرأة أصفر رقيق ، فأيهما علا كان له الولد والشبه بإذن الله ، إن علا ماء الرجل ماء المرأة كان ذكرا بإذن الله وإن علا ماء المرأة ماء الرجل كان أنثى بإذن الله ". قالوا:نعم . قال:"اللهم اشهد عليهم ". وقال:"أنشدكم بالذي أنزل التوراة على موسى:هل تعلمون أن هذا النبي الأمي تنام عيناه ولا ينام قلبه ". قالوا:اللهم نعم . قال:"اللهم اشهد ". قالوا:وأنت الآن فحدثنا من وليك من الملائكة ؟ فعندها نجامعك أو نفارقك قال:"إن وليي جبريل ، ولم يبعث الله نبيا قط إلا وهو وليه ". قالوا:فعندها نفارقك ، ولو كان وليك غيره لتابعناك ، فعند ذلك قال الله تعالى:( قل من كان عدوا لجبريل ) الآية [ البقرة:97] .
ورواه أحمد أيضا ، عن حسين بن محمد ، عن عبد الحميد ، به .
طريق أخرى:قال أحمد:حدثنا أبو أحمد الزبيري حدثنا عبد الله بن الوليد العجلي ، عن بكير بن شهاب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال:أقبلت يهود على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا:يا أبا القاسم ، نسألك عن خمسة أشياء ، فإن أنبأتنا بهن عرفنا أنك نبي واتبعناك ، فأخذ عليهم ما أخذ إسرائيل على بنيه إذ قال:( الله على ما نقول وكيل ) [ يوسف:66] . قال:"هاتوا ". قالوا:أخبرنا عن علامة النبي ؟ قال:"تنام عيناه ولا ينام قلبه ". قالوا:أخبرنا كيف تؤنث المرأة وكيف تذكر ؟ قال:"يلتقي الماءان ، فإذا علا ماء الرجل ماء المرأة أذكرت ، وإذا علا ماء المرأة آنثت . قالوا:أخبرنا ما حرم إسرائيل على نفسه ، قال:"كان يشتكي عرق النسا ، فلم يجد شيئا يلائمه إلا ألبان كذا وكذا - قال أحمد:قال بعضهم:يعني الإبل - فحرم لحومها ". قالوا:صدقت . قالوا:أخبرنا ما هذا الرعد ؟ قال:"ملك من ملائكة الله موكل بالسحاب بيده - أو في يده - مخراق من نار يزجر به السحاب ، يسوقه حيث أمره الله عز وجل ". قالوا:فما هذا الصوت الذي يسمع ؟ قال:"صوته ". قالوا:صدقت ، إنما بقيت واحدة ، وهي التي نتابعك إن أخبرتنا بها ، فإنه ليس من نبي إلا له ملك يأتيه بالخبر ، فأخبرنا من صاحبك ؟ قال:"جبريل عليه السلام ". قالوا:جبريل ذاك ينزل بالحرب والقتال والعذاب عدونا . لو قلت:ميكائيل الذي ينزل بالرحمة والنبات والقطر لكان ، فأنزل الله عز وجل:( قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين ) [ البقرة:97] .
وقد رواه الترمذي ، والنسائي ، من حديث عبد الله بن الوليد العجلي ، به نحوه ، وقال الترمذي:حسن غريب .
وقال ابن جريج والعوفي ، عن ابن عباس:كان إسرائيل - وهو يعقوب عليه السلام - يعتريه عرق النسا بالليل ، وكان يقلقه ويزعجه عن النوم ، ويقلع الوجع عنه بالنهار ، فنذر لله لئن عافاه الله لا يأكل عرقا ولا يأكل ولد له عرقا .
وهكذا قال الضحاك والسدي . كذا حكاه ورواه ابن جرير في تفسيره . قال:فاتبعه بنوه في تحريم ذلك استنانا به واقتداء بطريقه . قال:وقوله:( من قبل أن تنزل التوراة ) أي:حرم ذلك على نفسه من قبل أن تنزل التوراة .
قلت:ولهذا السياق بعد ما تقدم مناسبتان .
إحداهما:أن إسرائيل ، عليه السلام ، حرم أحب الأشياء إليه وتركها لله ، وكان هذا سائغا في شريعتهم فله مناسبة بعد قوله:(لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ) فهذا هو المشروع عندنا وهو الإنفاق في طاعة الله مما يحبه العبد ويشتهيه ، كما قال:( وآتى المال على حبه ) [ البقرة:177] وقال ( ويطعمون الطعام على حبه ) [ الإنسان:8] .
المناسبة الثانية:لما تقدم السياق في الرد على النصارى ، واعتقادهم الباطل في المسيح وتبين زيف ما ذهبوا إليه . وظهور الحق واليقين في أمر عيسى وأمه ، وكيف خلقه الله بقدرته ومشيئته ، وبعثه إلى بني إسرائيل يدعو إلى عبادة ربه تعالى - شرع في الرد على اليهود ، قبحهم الله ، وبيان أن النسخ الذي أنكروا وقوعه وجوازه قد وقع ، فإن الله ، عز وجل ، قد نص في كتابهم التوراة أن نوحا ، عليه السلام ، لما خرج من السفينة أباح الله له جميع دواب الأرض يأكل منها ، ثم بعد هذا حرم إسرائيل على نفسه لحمان الإبل وألبانها ، فاتبعه بنوه في ذلك ، وجاءت التوراة بتحريم ذلك ، وأشياء أخر زيادة على ذلك . وكان الله ، عز وجل ، قد أذن لآدم في تزويج بناته من بنيه ، وقد حرم ذلك بعد ذلك . وكان التسري على الزوجة مباحا في شريعة إبراهيم ، وقد فعله [ الخليل] إبراهيم في هاجر لما تسرى بها على سارة ، وقد حرم مثل هذا في التوراة عليهم . وكذلك كان الجمع بين الأختين شائعا وقد فعله يعقوب ، عليه السلام ، جمع بين الأختين ، ثم حرم ذلك عليهم في التوراة . وهذا كله منصوص عليه في التوراة عندهم ، فهذا هو النسخ بعينه ، فكذلك فليكن ما شرعه الله للمسيح ، عليه السلام ، في إحلاله بعض ما حرم في التوراة ، فما بالهم لم يتبعوه ؟ بل كذبوه وخالفوه ؟ وكذلك ما بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم من الدين القويم ، والصراط المستقيم ، وملة أبيه إبراهيم فما بالهم لا يؤمنون ؟ ولهذا قال [ تعالى] ( كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة ) أي:كان حلا لهم جميع الأطعمة قبل نزول التوراة إلا ما حرمه إسرائيل ، ثم قال:( قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين ) ، فإنها ناطقة بما قلناه