/م93
فقوله تعالى:( كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة ) هو جواب عن الشبهة الأولى ، قال الأستاذ الإمام:ولكن الجلال وكثيرا من المفسرين يقررون الشبهة ولا يبينون وجه دفعها بيانا مقنعا ، إذ يعترفون بأن بعض الطيبات كانت محرمة على إسرائيل .والصواب ما قصه الله تعالى علينا في هذه الآية وغيرها من الآيات التي توضحها ، وهي أن كان الطعام كان حلالا لبني إسرائيل ولإبراهيم من قبل بالأولى ، ثم حرم الله عليهم بعض الطيبات في التوراة عقوبة لهم وتأديبا ، كما قال:( فبظلم من الذين هادوا حرما عليهم طيبات أحلت لهم ) [ النساء:160] الآية .فالمراد بإسرائيل شعب إسرائيل ، كما هو مستعمل عندهم ، لا يعقوب نفسه .ومعنى تحريم الشعب ذلك على نفسه:أنه ارتكب الظلم و اجترح السيئات التي كانت سبب التحريم ، كما صرحت الآية .فكأنه يقول:إذا كان الأصل في الأطعمة الحل ، وكان تحريم ما حرم على إسرائيل تأديبا على جرائم أصابوها ، وكان النبي وأمته لم يجترحوا تلك السيئات ، فلم تحرم عليهم الطيبات ؟ ثم قال تعالى مبينا تقرير الدفع وسنده ( قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين ) في قولكم ، لا تخافون أن تكذبكم نصوصها .أقول:كأنه يقول:أما إنكم لو جئتم بما عندكم منها لما كان إلا مؤيدا للقرآن فيما جاء به من أنها هي حرمت عليكم ما حرمتُ .وعللت جملة التكاليف بأنكم شعب غليظ الرقبة متمرد يقاوم الرب ، كما قال موسى عند أخذ العهد عليكم بحفظ الشريعة ( اقرأ الفصل 31 من سِفر التثنية ) وفي غير ذلك من فصول التوراة .
قال الأستاذ الإمام:أما قول الجلال وغيره:إن يعقوب كان به عرق النّسا- بالفتح والقصر- فنذر:إن شُفي لا يأكل لحم الإبل .فهو دسيسة من اليهود وقيل:إنه نذر أن لا يأكل هذا العرق .وفي التوراة أن يعقوب التقى في بعض أسفاره بالرب في الطريق فتصارعا إلى الصباح ، وكاد يعقوب يغلبه ، ولكن اعتراه عرق النسا إلخ ما حرفوه .أقول:وتتمة العبارة- كما في سفر التكوين-"32:25 ولما رأى أنه لا يقدر عليه ضرب حق فخذه فانخلع حق فخذ يعقوب في مصارعته معه 26 وقال أطلقني لأنه قد طلع الفجر .فقال:لا أطلقك إن لم تباركني 27 فقال له:ما اسمك ؟ فقال يعقوب 28 فقال:لا يدعى اسمك فيما بعد يعقوب ، بل إسرائيل .لأنك جاهدت مع الله والناس وقدرت 29 وسأل يعقوب وقال:أخبرني باسمك .فقال:لماذا تسأل عن اسمي ؟ وباركه هناك 30 فدعا يعقوب اسم المكان فنيئيل ( قائلا ) لأني نظرت الله وجها لوجه ونجيت نفسي 31 وأشرقت له الشمس إذ عبر فنوئيل وهو يخمع على فخذه 32 لذلك لا يأكل بنو إسرائيل عرق النسا على حق الفخذ إلى هذا اليوم لأنه ضرب حق فخذ يعقوب على عرق النسا "ا ه .
وليس فيه أنه نذر شيئا ولا حرم شيئا وقيل:إن ما حرمه يعقوب هو زائدتا الكبد والكليتين والشحم إلا ما كان على الظهر .وقال مجاهد:حرم لحوم الأنعام كلها .وكل ذلك من الإسرائيليات .وصحة السند في بعضها عن ابن عباس أو غيره-كما زعم الحاكم- لا يمنع أن يكون مصدرها إسرائيليا .والأقرب ما قاله الأستاذ الإمام لأنه هو الذي تقوم به الحجة ، لا سيما عند المطلع على التوراة .ولو أريد بإسرائيل يعقوب نفسه لما كان هناك حاجة إلى قوله"من قبل أن تنزل التوراة "لأن زمن يعقوب سابق على زمن نزول التوراة سبقا لا يشتبه فيه فيحترس عنه .والمتبادر عندي:أن المراد بما حرمه إسرائيل على نفسه ما امتنعوا عن أكله وحرموه على أنفسهم بحكم العادة والتقليد ، لا بحكم من الله ، كما يعهد مثل ذلك في جميع الأمم .ومنه تحريم العرب للبحائر والسوائب وغير ذلك مما حكاه القرآن عنهم في سورتي المائدة والأنعام .وقيل:إن شبهتهم التي دفعتها الآية هي إنكار النسخ ، فألزمهم بأن التوراة نفسها نسخت بعض ما كان عليه إبراهيم وإسرائيل ، وهو إلزام لا يمكنهم التفصي منه .لأنه ثابت عندهم في التوراة وهو يدل على نبوة النبي على كل حال .إذ أخبرهم بما عندهم ولم يطلع عليه .وبهذا يسقط بحثهم في كون التحليل والتحريم لا يكونان إلا من الله .
ومن مباحث اللفظ في الآية:أن الطعام ما يطعم ، أن يُتناول لأجل الغذاء ، كما قال الراغب .وقد يقال أيضا:طعِم الماء- بكسر العين- وكان يطلق غالبا على الخبز .ومنه قولهم:أكل الطعام مأدوما ، وعلى البر .ومنه حديث أبي سعيد"كنا نخرج زكاة الفطر صاعا من طعام أو صاعا من شعير "{[321]} الخ متفق عليه .ومن إطلاقه على غيره حتما:قوله تعالى:( أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة ) [ المائدة:96] وعلى الذبائح أو العموم قوله:( وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم ) [ المائدة:5] الآية .والحل بالكسر مصدر حل الشيء ضد حرم ، وهو مستعار من حل العقدة ، كما قال الراغب .وإسرائيل:لقب نبي الله يعقوب عليه السلام .ومعناه"الأمير المجاهد مع الله "وقد علمت ما عندهم في سبب إطلاقه عليه من عبارة سفر التكوين الذي ذكرناها آنفا .ثم أطلق على جميع ذريته كما هو شائع في كتب القوم من الأسفار المنسوبة إلى موسى فما دونها .