{ كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل ان تنزل التوراة قل فأتوا بالتوراة فاتلوها عن كنتم صادقين93 فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك فأولئك هم الظالمون94 قل صدق الله فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين95}
هذه الآيات الكريمة متصلة بمحاجة اليهود ،ومجادلتهم في ذات الشرع الإسلامي ،وذات النبي صلى الله عليه وسلم ،فقد بين الله سبحانه وتعالى في الآيات السابقة عدم استقامتهم في كلب الحق ، وأنهم كانوا يتواصون فيما بينهم الا يؤمنوا ولا يذعنوا للحق إذ جاء إليهم ،وكانوا يقولون:آمنوا بالذي انزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره ،وقد اعترضوا على النبي صلى الله عليه وسلم بالباطل وما اعترضوا عليه بحق قط ،وما دفعهم إلى ذلك إلا تعصبهم المردى وظنهم انهم أولياء الله وأحباؤه ،وان الناس جميعا مهما تكن منزلتهم دونهم ،ولقد روى في الآثار ،وكما تدل عبارة التوراة انهم كانوا يحرمون على انفسهم لحوم الإبل وألبانها ،ويظهر انهم كانوا يعيرون العرب بأن طعامهم لحم الإبل وألبانها ،وان غذاءهم الجوهري هو ذلك اللبن والتمر ،ولذلك بين الله سبحانه وتعالى انه حلال لهم أيضا ان يأكلوه ،وانه طعام لهم كما هو طعام عند العرب ،وأنهم إذ حرموه على أنفسهم قد خالفوا الفطرة وخالفوا التوراة ثم ادعوا ان تحريم لحوم الإبل كان شرعة إبراهيم ،ولقد رد الله عليهم ذلك بقوله:
{ كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل ان تنزل التوراة} "حل"معناها حلال ،ومعنى النص السامي ان كل الطعام قبل التوراة كان حلالا لبني إسرائيل حتى غلظت أكبادهم ،واستولت عليهم الماديات ،فأراد الله سبحانه وتعالى ان يفطموا نفوسهم عن أهوائها ليكبحوا جماح شهواتهم ولكيلا يندفعوا في الظلم والهواء المردية ؛ولذا قال سبحانه:{ فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم . . .160}[ النساء] .
والطعام هو ما يطعمه الإنسان ويستسيغه ويطلبه راغبا فيه ، وهو في عمومه يشمل البر والذرة والشعير ، وكل المواد النباتية والحيوانية ؛ ولذا قال تعالى:{ احل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة . . .96} [ المائدة] . و قال تعالى:{ اليوم احل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم . . .5}[ المائدة:5] والمراد ذبائحهم .
وبمقتضى هذا النص السامي يكون كل طيب مطعوم مرغوب فيه حلالا ولا يحرم إلا الخبائث من الميتة والخنزير وغيرهما ،وان ذلك كان شريعة إبراهيم عليه السلام ،وانه ما كانت لحوم الإبل ولا ألبانها من المحرمات لأنها من الطيبات ،وإبراهيم وذريته على هذه الشريعة الفطرية ،حتى قست قلوب بني إسرائيل ففطمها الله بذلك التحريم المؤقت .
إذن فلم يكن شيء من الإبل محرما ،ولم يكن شيء من الطيبات محرما على بني إسرائيل من قبل التوراة ،إلا ما حرم إسرائيل على نفسه ،وإسرائيل اسم ليعقوب بن إسحاق عليهما السلام ،وقد اختلف العلماء في تخريج قوله تعالى:{ إلا ما حرم إسرائيل على نفسه} ما المراد بإسرائيل اهو القبيل كله ،وهم اليهود ؛ام المراد ذات يعقوب الذي هو أبو القبيل ،وإليه ينتمي ؟ .
ذكر الزمخشري التخريجين ،ورجح ان المراد ذات يعقوب عليه السلام ،ويكون المعنى:إن كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه باجتهاد منه لشخصه:إما لعلاج جسمي بأن وجد ان هذا الطعام يضره ويؤذيه ،وان الابتعاد عنه ينفعه ويجديه ،كما نرى من ناس يتجنبون بعض الأطعمة لأنها لا تناسب حالهم بإشارة طبيب أمين او بتجربة شخصية ،وكل امرئ طبيب نفسه . وإما لعلاج نفسي كان يمتنع عن بعض ألوان الطعام قناعة وفطما للنفس ، وما كان يتخذ ذلك شريعة تتبع بل اتخذه علاجا شخصيا لجسمه او لنفسه ،ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:"من الإسراف ان تأكل كل ما تشتهي".
هذا هو التخريج الأول .
أما التخريج الثاني فإن مقتضاه ان بني إسرائيل هم الذين حرموا بعض الأطعمة على انفسهم كما كان العرب يحرمون على انفسهم بعض أنواع الأطعمة ، كتحريم البحيرة{[527]} ونحوها مما نعاه القرآن الكريم عليهم .
ولعل القبيل كان يحرم على نفسه الإبل مثلا تقليدا ليعقوب فيما لا يجب التقليد فيه .
ولكنهم ادعوا ان تحريمهم لبعض الأطعمة التي لم يحرمها الله تعالى عليهم كان في التوراة منسوبا لإبراهيم ،ولذلك تحداهم الله سبحانه وتعالى بقوله:
{ قل فأتوا بالتوراة فاتلوها عن كنتم صادقين} الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، وهو تكليف منه تعالت قدرته بان يطلب عليهم ان يأتوا بالتوراة ليبينوا النص الذي كان به التحريم اهو يدل على انه كان قبل التوراة ام كان بعدها ؟ ، و أيدخل في عموم التحريم تحريم لحوم الإبل وألبانها ؟ و"الفاء"في قوله:{ فاتلوها} فاء العطف ، أي فأحضروها ، واتلوها عقب إحضارها ،وتلاوتها أي قراءتها بإمعان ، وتبين التحدي في قوله تعالى:{ إن كنتم صادقين} والتعبير ب"إن"للإشارة إلى عدم صدقهم ؛لأنها تدل على الشك في الشرط ،وعدم ترتب الجواب عليه ،أي هم ليسوا صادقين فيما يدعون ،ولذلك لا يتلون ولا يقرءون .
والمؤدى:أنكم لو جئتم بها وأمعنتم في تفهمها ،لكذبتكم ولأثبتت افتراءكم على الله سبحانه وتعالى ،وإن من افترى الكذب على الله تعالى ظالم لنفسه وللناس ،ولذا قال تعالى بعد ذلك:
{ فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك فأولئك هم الظالمون} .