مناسبة النزول:
في أسباب النزول في ما ورد من حديث التفسير ،أنَّ هذه الآيات جاءت ردّاً على اليهود الذين يحرّمون لحوم الإبل وألبانها ،زعموا بأنَّ ذلك كان محرّماً في دين إبراهيم وأولاده ،واعتراضاً منهم على رسول اللّه ( ص ) الذي أحلّها في الوقت الذي يقول فيه إنَّه على ملّة إبراهيم .
فقد جاء في أسباب النزول للواحدي: «قال أبو روق والكلبي: نزلت حين قال النبيّ: أنا على ملّة إبراهيم ،فقالت اليهود: كيف وأنت تأكل لحوم الإبل وألبانها ؟فقال النبيّ: كان ذلك حلالاً لإبراهيم فنحن نحلّه ،فقالت اليهود: كلّ شيء أصبحنا اليوم نحرّمه ،فإنَّه كان على نوح وإبراهيم حتّى انتهى إلينا .فأنزل اللّهعزَّ وجلّتكذيباً لهم: [ كلُّ الطَّعام كان حلاً لبني إسرائيل] الآية »
كانت هذه الآيات من أجل أن تضع القضية في موضعها من الحقيقة الدينية التاريخية ،وهي أنَّ اللّه لم يحرّم على بني إسرائيل شيئاً قبل نزول التوراة ،بل كانت الأطعمة كلّها حلالاً منذ عهد إبراهيم حتّى عهد يعقوب الذي هو إسرائيل ،الذي منع نفسه من بعض الأطعمة لأنَّه يعافها أو يتضرر منها لا على أساس التحريم الشرعي ،فإنَّه أعظم قدراً من أن يحرّم على نفسه شيئاً قد أحلّه اللّه له ،وهكذا استمرت الشريعة قبل نزول التوراة ،وذلك هو قوله تعالى: [ كلُّ الطَّعام كان حلاً لبني إسرائيل] لأنَّ اللّه لم يحرّم منه شيئاً عليهم [ إلاَّ ما حرّم إسرائيل] وهو يعقوب [ على نفسه] تحريماً ذاتياً لها من الناحية المزاجية ،فإنَّ الإنسان قد يمنع نفسه من بعض الأشياء المحلّلة من أجل بعض الجوانب النفسية ،بعيداً عن عالم التحريم والتحليل ،وكان ذلك: [ من قبل أن تُنَزَّل التَّوراة] .
أساليب الزّيف والمراوغة:
ولما نزلت التوراة حرّمت بعض الأشياء عقوبةً لهم على ما قاموا به من بعض المعاصي ،كما أشار إليه اللّه سبحانه في قوله تعالى: [ فَبِظُلم مِنَ الذينَ هَادُوا حَرَّمنا عَلَيهم طَيِّباتٍ أُحِلَّت لهم وبصدِّهم عن سبيل اللّه كثيراً] ( النساء:160 ) وحرّمت عليهم أشياء أخرى ،منها ما ذكره اللّه في قوله: [ وعلى الذين هادوا حرَّمنا كلَّ ذي ظُفُرٍ ومن البقر والغنم حرَّمنا عليهم شحومهما إلاَّ ما حملت ظهورُهُما أو الحوايا أو ما اختلط بعظمٍ ذلك جزيناهم ببغيهم وإنَّا لصادقون] ( الأنعام:146 ) ولم يرد في التوراة تحريم لحم الإبل ،فكيف يدّعون تحريمها وينكرون على رسول اللّه( ص ) حليتها .ثُمَّ أطلق التحدّي ،في وجوههم: [ قل فأتوا بالتَّوراة فاتلوها إن كنتم صادقين] ولكنَّهم لم يثبتوا أمام التحدّي لأنَّهم يعرفون نتيجة ذلك في إظهار كذبهم وزيف دعاويهم .
وهذا أسلوب لا بُدَّ من مراعاته واتباعه مع النَّاس الذين ينسبون إلى الشريعة تحليل شيء غير موجود فيها ،أو ينكرون وجود بعض العقائد الباطلة في كتبهم ،وهي موجودة فيها ،وذلك كبعض الملحدين الذين يتحرّكون في وضع سياسي واقتصادي معيّن ؛فإذا تحدّث إليهم متحدّث بما عندهم من ذلك ،وخافوا أن تعطل هذه القضايا بعض خططهم وأهدافهم ،أنكروا وجودها اعتماداً على أنَّ النَّاس لا يقرأون ،أو أنَّهم لا يصلون إلى هذه الكتب ،فيمكن للعاملين في سبيل الدعوة إلى اللّه أن يطلبوا منهم إبراز كتبهم أمام النَّاس ليظهروا ما فيها من شؤون العقيدة في عالم الإلحاد والإيمان ،ليبرز من ذلك زيفهم وبطلان أساليبهم الخادعة .فإذا وضحت الحقيقة من خلال ذلك ،أو من خلال هروبهم عن إظهارها ،فلا بُدَّ من أن يقفوا وقفة الصدق أمام الحقيقة الواضحة .