هاتان الآيتان مشتملتان على آداب نوعي الدعاء:دعاء العبادة ، ودعاء المسألة ؛ فإن الدعاء في القرآن يراد به هذا تارة ، وهذا تارة ، ويراد به مجموعهما وهما متلازمان .
فإن دعاء المسألة:هو طلب ما ينفع الداعي ، وطلب كشف ما يضره ، أو دفعه ، وكل من يملك الضر والنفع فإنه هو المعبود حقا . والمعبود لا بد أن يكون مالكا للنفع والضر ، ولهذا أنكر الله تعالى على من عبد من دونه مالا يملك ضرا ولا نفعا ، وذلك كثير في القرآن . كقوله تعالى:{ ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم} [ يونس:18] وقوله تعالى:{ ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك} [ يونس:106] وقوله تعالى:{ قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا والله هو السميع العليم} [ المائدة:76] وقوله تعالى:{ أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم * أف لكم ولما تعبدون من دون الله} [ الأنبياء:66 . 67] وقوله تعالى:{ واتل عليهم نبأ إبراهيم * إذ قال لأبيه وقومه ما تعبدون * قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين * قال هل يسمعونكم إذ تدعون * أو ينفعونكم أو يضرون} [ الشعراء:69 . 73] وقوله تعالى:{ واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا} [ الفرقان:3] وقال تعالى:{ ويعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم وكان الكافر على ربه ظهيرا} [ الفرقان:55] .
فنفى سبحانه عن هؤلاء المعبودين من دونه النفع والضر ، القاصر والمتعدي . فلا يملكونه لأنفسهم ولا لعابديهم ، وهذا في القرآن كثير بيد أن المعبود لا بد أن يكون مالكا للنفع والضر ، فهو يُدعَى للنفع ودفع الضر ، ودعاء المسألة ، ويدعي خوفا ورجاء ، ودعاء العبادة . فعلم أن النوعين متلازمان:فكل دعاء عبادة مستلزم لدعاء المسألة ، وكل دعاء مسألة متضمن لدعاء العبادة .
وعلى هذا فقوله تعالى:{ وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان} [ البقرة:186] يتناول نوعي الدعاء . وبكل منهما فسرت الآية .
قيل:أعطيه إذا سألني . وقيل:أثيبه إذا عبدني ، والقولان متلازمان .
وليس هذا من استعمال اللفظ المشترك في معنييه كليهما ، أو استعمال اللفظ في حقيقة ومجازه ، بل هذا استعمال له في حقيقتهالواحدة المتضمنة للأمرين جميعا . فتأمله فإنه موضع عظيم النفع ، قل من يفطن له .
وأكثر ألفاظ القرآن الدالة على معنيين فصاعدا هي من هذا القبيل .
ومثال ذلك:قوله:{ أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل} [ الإسراء:78] .
فسر «الدلوك » بالزوال ، وفسره بالغروب ، وحكيا قولين في كتب التفسير . وليسا بقولين ، بل اللفظ يتناولهما معا . فإن الدلوك هو الميل . ودلوك الشمس ميلها ولهذا الميل مبدأ ومنتهى . فمبدؤه الزوال ، ومنتهاه الغروب . فاللفظ متناول لهما بهذا الاعتبار لا يتناول المشترك لمعنييه . ولا اللفظ لحقيقته ومجازه .
ومثاله أيضا:تفسير «الغاسق » بالليل والقمر ، وأن ذلك ليس باختلاف ، بل يتناولهما لتلازمهما ، فإن القمر آية الليل . ونظائره كثيرة .
ومن ذلك:قوله عز وجل:{ قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم} [ الفرقان:77] .
قيل:لولا دعاؤكم إياه . وقيل:دعاؤه إياكم إلى عبادته فيكون المصدر مضافا إلى المفعول ، وعلى الأول مضافا إلى الفاعل ، وهو الأرجح من القولين .
وعلى هذا:فالمراد به نوعا الدعاء وهو في دعاء العبادة أظهر ، أي ما يعبأ بكم ربي لولا أنكم تعبدونه ، وعبادته تستلزم مسألته فالنوعان داخلان فيه .
ومن ذلك:قوله تعالى:{ وقال ربكم ادعوني أستحب لكم} [ غافر:60] فالدعاء يتضمن النوعين ، وهو في دعاء العبادة أظهر ، ولهذا عقبة بقوله:{ إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين} فسر الدعاء في الآية بهذا ، وهذا وقد روى سفيان عن منصور عن زر نُسيع الكندي عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر:«إن الدعاء هو العبادة » . ثم قرأ:{ ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين} [ غافر:60] رواه الترمذي ، وقال:حديث حسن صحيح .
وأما قوله تعالى:{ يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له} [ الحج:73] وقوله:{ إن يدعون من دونه إلا إناثا} [ النساء:117] وقوله:{ وضل عنهم ما كانوا يدعون من قبل} [ فصلت:48] وكل موضع ذكر فيه دعاء المشركين لأصنامهم وآلهتهم فالمراد به دعاء العبادة ، المتضمن دعاء المسألة ، فهو في دعاء العبادة أظهر لوجوه ثلاثة:
أحدها:أنهم قالوا:{ إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى} [ الزمر:3] فاعترفوا بأن دعاءهم إياهم هو عبادتهم لهم .
الثاني:أن الله تعالى فسر هذا الدعاء في مواضع أخرى بأنه العبادة . كقوله:{ وقيل لهم أينما كنتم تعبدون * من دون الله هل ينصرونكم أو ينتصرون} [ الشعراء:92 . 93] وقوله:{ إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم} [ الأنبياء:98] وقوله:{ قل يا أيها الكافرون * لا اعبد ما تعبدون} [ الكافرون:1 . 2] وهو كثير في القرآن ، فدعاؤهم لآلهتهم هو عبادتهم لها .
الثالث:أنهم إنما كانوا يعبدونها ويتقربون بها إلى الله ، فإذا جاءتهم الحاجات والكربات والشدائد دعوا الله وحده وتركوها . ومع هذا فكانوا يسألونها بعض حوائجهم ويطلبون منها ، وكان دعاؤهم لها دعاء عبادة ودعاء مسألة .
وقوله تعالى:{ فادعوا الله مخلصين له الدين} [ غافر:14] هو دعاء العبادة ، والمعنى:اعبدوه وحده ، وأخلصوا عبادته ، لا تعبدوا معه غيره .
وأما قول إبراهيم الخليل عليه السلام:{ إن ربي لسميع الدعاء} [ إبراهيم:39] فالمراد بالسمع هنا:السمع الخاص ، وهو سمع الإجابة والقبول ، لا السمع العام ؛ لأنه سميع لكل مسموع .
وإذا كان كذلك فالدعاء هنا يتناول دعاء الثناء ودعاء الطلب ، وسمع الرب تبارك وتعالى له إثابته على الثناء ، وإجابته للطلب ، فهو سميع لهذا ولهذا .
وأما قول زكريا عليه السلام:{ ولم أكن بدعائك رب شقيا} [ مريم:4] فقد قيل:إنه دعاء المسألة ، والمعنى:إنك عودتني إجابتك وإسعافك ، ولم تشقني بالرد والحرمان ، فهو توسل إليه تعالى بما سلف من إجابته وإحسانه ، كما حكى أن رجلا سأل رجلا وقال:أنا الذي أحسنت إلي وقت كذا وكذا ، فقال:مرحبا بمن توسل إلينا بنا ، وقضى حاجته ، وهذا ظاهر هنا .
ويدل عليه:أنه قدم ذلك أمام طلبه الولد ، وجعله وسيلة إلى ربه ، فطلب منه أن يجاريه على عادته التي عوده:من قضاء حوائجه وإجابته إلى ما سأله .
وأما قوله تعالى:{ قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى} [ الإسراء:110] فهذا الدعاء المشهور ، وأنه دعاء المسألة ، وهو سبب النزول ، قالوا كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعوا ربه ، فيقول مرة:يا الله ، ومرة:يا رحمن ،
فظن الجاهلون من المشركين أنه يدعوا إلهين ، فأنزل الله تعالى هذه الآية » قال ابن عباس رضي الله عنهما «سمع المشركون النبي صلى الله عليه وسلم في سجوده:يا رحمن يا رحيم فقالوا:هذا يزعم أنه يدعوا واحدا ، وهو يدعوا مثنى مثنى ، فأنزل الله هذه الآية:{ قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن} .
وقيل:إن الدعاء هاهنا بمعنى التسمية ، كقولهم:دعوت ولدي سعيدا . وادعه بعبد الله ونحوه . والمعنى:سموا الله أو سموه الرحمن:فالدعاء هاهنا بمعنى التسمية . وهذا قول الزمخشري .
والذي حمله على هذا قوله:{ أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى} فإن المراد بتعدده:معنى «أي » وعمومها هاهنا تعدد الأسماء ليس إلا ، والمعنى:أي اسم سميتموه به من أسماء الله تعالى ، إما الله إما الرحمن فله الأسماء الحسنى ، أي فللمسمي سبحانه الأسماء الحسنى ، والضمير في «له » يعود إلى المسمى ، فهذا الذي أوجب له أن يحمل الدعاء في الآية على التسمية .
وهذا الذي قاله هو من لوازم المعنى المراد بالدعاء في الآية وليس هو عين المراد بل المراد بالدعاء معناه المعهود المطرد في القرآن ، وهو دعاء السؤال ، ودعاء الثناء ولكنه متضمن معنى التسمية فليس المراد مجرد التسمية الخالية عن العبادة والطلب بل التسمية الواقعة في دعاء الثناء والطلب .
فعلى هذا المعنى:يصح أن يكون في «تدعوا » معنى تسموا ، فتأمله .
والمعنى:أيا ما تسموا في ثنائكم ودعائكم وسؤالكم . والله أعلم .
وأما قوله تعالى:{ إنا كنا من قبل ندعوه إنه هو البر الرحيم} [ الطور:28] فهذا دعاء العبادة المتضمن للسؤال رغبة ورهبة .
والمعنى:إنا كنا من قبل نخلص له العبادة ، وبهذا استحقوا أن وقاهم عذاب السموم ، لا بمجرد السؤال المشترك بين الناجي وغيره ، فإن الله سبحانه يسأله من في السموات ومن في الأرض ، والفوز والنجاة إنما هي بإخلاص العبادة لا بمجرد السؤال والطلب .
وكذلك قول الفتية أصحاب الكهف:{ ربنا رب السموات والأرض لن ندعو من دونه إلها} [ الكهف:14] أي لن نعبد غيره .
وكذلك قوله تعالى:{ أتدعون بعلا وتذرون أحسن الخالقين} [ الصافات:125] .
وأما قوله تعالى:{ وقيل ادعوا شركاءكم فدعوا فلم يستجيبوا لهم ورأوا العذاب لو أنهم كانوا يهتدون} [ القصص:64] . فهذا من دعاء المسألة ، يبكتهم الله - عز وجل ويخزيهم يوم القيامة بإراءتهم أن شركاءهم لا يستجيبون لدعوتهم ، وليس المراد اعبدوهم .
وهو نظير قوله تعالى:{ ويوم يقول نادوا شركائي الذين زعمتم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم} [ الكهف:52] .
وهذا التقرير نافع في مسألة الصلاة ، وأنها:هل نقلت عن مسماها في اللغة ، فصارت حقيقة شرعية منقولة أو استعملت في هذه العبادة مجازا ، للعلاقة بينها وبين المسمى اللغوي ، أو هي باقية على الوضع اللغوي وضم إليها أركان وشرائعا ؟
وعلى ما قررناه:ولا حاجة إلى شيء من ذلك . فإن المصلى من أول صلاته إلى آخرها لا ينفك عن دعاء:إما دعاء ، عبادة وثناء ، أو دعاء طلب ومسألة وهو في الحالين داع ، فما خرجت الصلاة عن حقيقة الدعاء فتأمله .
إذا عرفت هذا . فقوله تعالى:{ ادعوا ربكم تضرعا وخفية} يتناول نوعي الدعاء لكنه ظاهر في دعاء المسألة ،متضمن دعاء العبادة ، ولهذا أمر بإخفائه وإسراره .
قال الحسن:بين دعوة السر ودعوة العلانية سبعون ضعفا . ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء ، وما يسمع لهم صوت ، إن كان إلا همسا بينهم وبين ربهم .
وذلك أن الله تعالى يقول:{ ادعوا ربكم تضرعا وخفية} وأن الله تعالى ذكر عبدا صالحا ورضي بفعله ، وقال:{ إذ نادى ربه نداء خفيا} [ مريم:3] .
وفي إخفاء الدعاء فوائد عديدة:
أحدها:أنه أعظم إيمانا ؛ لأن صاحبه يعلم أن الله تعالى يسمع دعاءه الخفي . وليس كالذي قال:إن الله يسمع إن جهرنا ، ولا يسمع إن أخفينا .
ثانيها:أنه أعظم في الأدب والتعظيم . ولهذا لا تخاطب الملوك ولا تسأل برفع الأصوات ، وإنما تخفض عندهم الأصوات ، ويخف عندهم الكلام بمقدار ما يسمعونه ومن رفع وصوته لديهم مقتوه ، ولله المثل الأعلى ، فإذا كان يسمع الدعاء الخفي فلا يليق بالأدب بين يديه إلا خفض الصوت به .
ثالثها:أنه أبلغ في التضرع والخشوع الذي هو روح الدعاء ولبه ومقصوده . فإن الخاشع الذليل الضارع إنما يسأل مسألة مسكين ذليل ، قد انكسر قلبه ، وذلت جوارحه ، وخشع صوته ، حتى إنه ليكاد تبلغ به ذلته ومسكنته وكسرته وضراعته إلى أن ينكسر لسانه فلا يطاوعه بالنطق . فقلبه سائل طالب مبتهل ، ولسانه لشدة ذله وضراعته ومسكنته ساكت ، وهذه الحالة لا يتأتى معها رفع الصوت بالدعاء أصلا .
ورابعها:أنه أبلغ في الإخلاص .
وخامسها:أنه أبلغ في جمعه القلب على الله تعالى في الدعاء ، فإن رفع الصوت يفرقه ويشتته ، فكلما خفض صوته كان أبلغ في حمده وتجريد همته وقصده للمدعو ، سبحانه وتعالى .
وسادسها:وهو من النكت السرية البديعة جدا - أنه دال على قرب صاحبه من الله ، وأنه لاقترابه منه ، وشدة حضوره يسأله مسألة أقرب شيء إليه .
فيسألة مسألة مناجاة للقريب ، لا مسألة نداء البعيد للبعيد ، ولهذا:أثنى سبحانه على عبده زكريا بقوله:{ إذ نادى ربه نداء خفيا} [ مريم:3] فكلما استحضر القلب قرب الله تعالى منه ، وأنه أقرب إليه من كل قريب ، وتصور ذلك أخفى دعاءه ما أمكنه ولم يتأت له رفع الصوت به ، بل يراه غير مستحسن كما أن من خاطب جليسا له يسمع خفي كلامه فبالغ في رفع الصوت استهجن ذلك منه ولله المثل الأعلى سبحانه ، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعنى بعينه بقوله في الحديث الصحيح . لما رفع الصحابة أصواتهم بالتكبير وهم معه في السفر فقال:«اربعوا على أنفسكم إنكم لا تدعون أصما ولا غائبا إنكم تدعون سميعا قريبا أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته » وقال تعالى:{ وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان} [ البقرة:186] وقد جاء أن سبب نزولها:أن الصحابة قالوا:«يا رسول الله ربنا قريب فنناجيه ، أم بعيد فنناديه ؟ فأنزل الله عز وجل:{ وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان} .
وهذا يدل على إرشادهم للمناجاة في الدعاء ، لا للنداء الذي هو رفع الصوت فإنهم عن هذا سألوا ، فأجيبوا بأن ربهم تبارك وتعالى قريب لا يحتاج في دعائه وسؤاله إلى النداء ، وإنما يسأل مسألة القريب المناجي ، لا مسألة البعيد المنادي .
وهذا القرب من الداعي هو قرب خاص ، ليس قربا عاما من كل أحد ، فهو قريب من داعيه وقريب من عابده ، و«أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد » . وهو أخص من قرب الإنابة وقرب الإجابة ، الذي لم يثبت أكثر المتكلمين سواه ، بل هو قرب خاص من الداعي والعابد ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم راويا عن ربه تبارك وتعالى:«من تقرب مني شبرا تقربت منه ذراعا ومن تقرب مني ذراعا تقربت منه باعا » ، فهذا قربه من عابده ، وأما قربه من داعيه وسائله فكما قال تعالى:{ وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان} .
وقوله:{ ادعوا ربكم تضرعا وخفية} فيه الإشارة والإعلام بهذا القرب . وأما قربة تبارك وتعالى من محبه فنوع آخر وبناء آخر ، وشأن آخر ، كما قد ذكرناه في كتاب التحف المكية . على أن العبارة تنبو عنه ولا تحصل في القلب حقيقة معناه أبدا ، لكن بحسب قوة المحبة وضعفها يكون تصديق العبد بهذا القرب ، وإياك ثم إياك أن تعبر عنه بغير العبارة النبوية ، أو يقع في قلبك غير معناها ومرادها فتزل قدم بعد ثبوتها وقد ضعف تمييز خلائق في هذا المقام وساء تعبيرهم فوقعوا في أنواع من الطامات والشطح ، وقابلهم من غَلُظَ حجابه ، فأنكر محبة العبد لربه جملة وقربه منه وأعاد ذلك إلى مجرد الثواب المخلوق فهو عنده المحبوب القريب ليس إلا . وقد ذكرنا من طرق الرد على هؤلاء وهؤلاء في كتاب «التحفة » أكثر من مائة طريق .
والمقصود هاهنا:الكلام علي هذه الآية .
وسابعها:أنه أدعى إلى دوام الطلب والسؤال ، فإن اللسان لا يمل والجوارح لا تتعب بخلاف ما إذا رفع صوته فإنه قد يكل لسانه وتضعف بعض قواه ، وهذا نظير من يقرأ ويكرر رافعا صوته ، فإنه لا يطول له ذلك بخلاف من يخفض صوته .
وثامنها:أن أخفاء الدعاء أبعد له من القواطع والمشوشات والمضعفات . فإن الداعي إذا أخفى دعاءه لم يدر به أحد فلا يحصل هناك تشويش ولا غيره ، وإذا جهر به تفطنت له الأرواح الشريرة والباطولية الخبيثة من الجن والإنس ، فشوشت عليه ولا بد ، ومانعته وعارضته ولو لم يكن من ذلك إلا أن تعلقها به يفرق عليه همته فيضعف أثر الدعاء لكفى . ومن له تجربة يعرف هذا . فإذا أسر الدعاء وأخفاه أمن هذه المفسدة .
وتاسعها:إن أعظم النعم هو الإقبال على الله ، والتعبد له ، والانقطاع إليه والتبتل إليه ، ولكل نعمة حاسد على قدرها ، دقت أو جلت ، ولا نعمة أعظم من هذه النعمة . فأنفس الحاسدين المنقطعين متعلقة بها ، وليس للمحسود أسلم من إخفاء نعمته عن الحاسد وأن لا يقصد إظهارها له ، وقد قال يعقوب ليوسف – عليهما السلام –{ لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا إن الشيطان للإنسان عدو مبين} [ يوسف:5] وكم من صاحب قلب وجمعية وحال مع الله قد تحدث بها وأخبر بها فسلبه إياها الأغيار ، فأصبح يقلب كفيه ، ولهذا يوصى العارفون والشيوخ بحفظ السر مع الله وأن لا يطلعوا عليه أحدا ويتكتمون به غاية التكتم كما أنشد بعضهم في ذلك:
من سارروه فأبدى السر مجتهدا *** لم يأمنوه على الأسرار ما عاشا
وأبعدوه فلم يظفر بقربهم *** وأبدلوه مكان الأنس إيحاشا
لا يأمنون مذيعا بعض سرهم *** حاشا ودادهم من ذلكم حاشا
والقوم أعظم شيء كتمانا لأحوالهم مع الله وما وهب الله لهم من محبته والأنس به وجمعية القلب عليه ، ولاسيما للمبتدئ والسالك . فإذا تمكن أحدهم وقوى وثبتت أصول تلك الشجرة الطيبة التي أصلها ثابت وفرعها في السماء في قلبه بحيث لا
يخشي عليه من العواصف ، فإنه إذا أبدى حاله وشأنه مع الله ليقتدي به ويؤتم به لم يبال ، وهذا باب عظيم النفع وإنما يعرفه أهله .
وإذا كان الدعاء المأمور بإخفائه يتضمن دعاء الطلب والثناء والمحبة والإقبال على الله فهو من أعظم الكنوز التي هي أحق بالإخفاء والستر عن أعين الحاسدين وهذه فائدة شريفة نافعة .
عاشرها:أن الدعاء هو ذكر للمدعو سبحانه متضمن للطلب منه والثناء عليه بأسمائه وأوصافه ، فهو ذكر وزيادة ، كما أن الذكر سمي دعاء لتضمنه الطلب كما قال النبي
صلى الله عليه وسلم «أفضل الدعاء الحمد لله » فسمى «الحمد لله » دعاء ، وهو ثناء محض ؛ لأن الحمد يتضمن الحب والثناء . والحب أعلى أنواع الطلب للمحبوب ، فالحامد طالب لمحبوبه ، فهو أحق أن يسمى داعيا من السائل الطالب من ربه حاجة ما .
فتأمل هذا الموضع فإذا بأمليه لا تحتاج إلى ما قبله:إن الذاكر متعرض للنوال وإن لم يكن مصرحا بالسؤال ، فهو داع بما تضمنه ثناؤه من التعرض ، كما قال أمية بن أبي الصلت في ممدوحه:
أأذكر حاجتي ، أم قد كفاني *** حياؤك ؟ إن شيمتك الحياء
إذا أثنى عليك المرء يوما *** كفاه من تعرضه الثناء
وعلى هذه الطريقة التي ذكرناها فنفس الحمد والثناء متضمن لأعظم الطلب وهو طلب المحب ، فهو دعاء حقيقة ، بل أحق أن يسمى دعاء من غيره من أنواع الطلب الذي هو دونه .
والمقصود:أن كل واحد من الدعاء والذكر يتضمن الآخر ويدخل فيه . وقد قال تعالى:{ واذكر ربك في نفسك تضرعا وخفية ودون الجهر من القول} [ الأعراف:205] .
فأمر تعالى نبيه أن يذكره في نفسه . قال مجاهد وابن جريج أمر أن يذكروه في الصدور بالتضرع والاستكانة دون رفع الصوت أو الصياح ، وقد تقدم حديث أبي موسى رضي الله عنه «كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فارتفعت أصواتنا بالتكبير فقال صلى الله عليه وسلم:«يا أيها الناس ، أربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصما ولا غائبا ، إنما تدعون سميعا قريبا اقرب إلى أحدكم من عنق راحلته » .
وتأمل كيف قال في آية الذكر{ واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة} [ الأعراف:205] .
وفي آية الدعاء{ ادعوا ربكم تضرعا وخفية} [ الأعراف:55] فذكر التضرع فيهما معا ، وهو التذلل والتمسكن والانكسار ، وهو روح الذكر والدعاء ، وخص الدعاء بالخفية لما ذكرنا من الحكم وغيرها ، وخص الذكر بالخيفة لحاجة الذاكر إلى الخوف ، فإن الذكر يستلزم المحبة ويثمرها ولا بد ، فمن أكثر من ذكر الله تعالى أثمر له ذلك محبته .
والمحبة ما لم تقرن بالخوف ، فإنها لا تنفع صاحبها بل قد تضره ؛ لأنها توجب الإدلال والانبساط ، وربما آلت بكثير من الجهال المغرورين إلى أنهم استغنوا بها عن الواجبات وقالوا:المقصود من العبادات إنما هو عبادة القلب وإقباله على الله ومحبته له وتألهه له . فإذا حصل المقصود فالاشتغال بالوسيلة باطل ، ولقد حدثني رجل إنه أنكر على رجل من هؤلاء خلوة له ترك فيها حضور الجمعة فقال له الشيخ:أليس الفقهاء يقولون إذا خاف على شيء من ماله فإن الجمعة تسقط عنه ؟ فقال له:بلى ، فقال له:فقلب المريد أعز عليه من ضياع عشرة دراهم ، أو كما قال .
وهو إذا خرج ضاع قلبه فحفظه لقلبه عذر مسقط للجمعة في حقه ، فقال له:هذا غرور بل الواجب عليه الخروج إلى أمر الله وحفظ قلبه مع الله ، فالشيخ المربي العارف يأمر المريد بأن يخرج إلى الأمر ويراعى حفظ قلبه ، أو كما قال .
فتأمل هذا الغرور العظيم كيف آل بهؤلاء إلى الانسلاخ عن الإسلام جملة ، فإن من سلك هذا المسلك انسلخ عن الإسلام العام كانسلاخ الحية من قشرها ، وهو يظن أنه من الخاصة ، وسبب هذا اقتران الخوف من الله تعالى بحبه وإرادته ولهذا قال بعض السلف من عبد الله تعالى بالحب وحده فهو زنديق ، ومن عبده بالخوف وحده فهو حروري ، ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجئ ، ومن عبده بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن
وقد جمع الله تعالى هذه المقامات الثلاثة بقوله:{ أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم اقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه} [ الإسراء:57] .
فابتغاء الوسيلة:هو محبته الداعية إلى التقرب إليه ، ثم ذكر بعدها الرجاء والخوف فهذه طريقة عبادة وأوليائه .
وربما آل الأمر بمن عبده بالحب المجرد إلى استحلال المحرمات ، ويقول:المحب لا يضره ذنب وقد صنف بعضهم في ذلك مصنفا وذكر فيه أثرا مكذوبا «إذا أحب الله العبد لم تضره الذنوب » وهذا كذب قطعا مناف للإسلام . فالذنوب تضر بالذات لكل أحد كضرر السم للبدن . ولو قدر أن هذا الكلام صح عن بعض الشيوخ - وأما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فمعاذ الله من ذلك - فله محمل ، وهو أنه إذا أحبه لم يدعه حبه إياه إلى أن يصر على ذنب ؛ لأن الإصرار على الذنب مناف لكونه محبا لله ، وإذا لم يصر على الذنب بل بادر إلى التوبة النصوح منه ، فإنه يمحو أثره ولا يضر الذنب ، وكلما أذنب وتاب إلى الله زال عنه أثر الذنب وضرره ، فهذا المعنى صحيح .
والمقصود:أن تجريد الحب والذكر عن الخوف يوقع في هذه المعاطب ، فإذا اقترن بالخوف جمعه على الطريق ورده إليها كلما شرد ، فكأن الخوف سوط يضرب به مطيته لئلا تخرج عن الدرب والرجاء حاد يحدوها يطيب لها السير ، والحب قائدها وزمامها الذي يسوقها . فإذا لم يكن للمطية سوط ولا عصا يردها إذا حادت عن الطريق ، وتركت تركب التعاسيف خرجت عن الطريق وضلت عنها ، فما حفظت حدود الله ومحارمه .
ووصل الواصلون إليه بمثل خوفه ورجائه ومحبته ، فمتى خلا القلب عن هذه الثلاثة فسد فسادا لا يرجى صلاحه أبدا ، ومتى ضعف فيه شيء من هذه ضعف إيمانه بحسبه .
فتأمل أسرار القرآن الكريم وحكمته في اقتران الخيفة بالذكر ، والخيفة بالدعاء ، مع دلالته على اقتران الخيفة بالدعاء والخيفة بالذكر أيضا ، فإنه قال:{ اذكر ربك في نفسك} [ الأعراف:5 . 6] فلم يحتج بعدها أن يقول «خفية » وقال في الدعاء:{ وادعوه خوفا وطمعا} [ الأعراف:56] فلم يحتج أن يقول في الأولى ادعوا ربكم تضرعا وخيفة فانتظمت كل واحدة من الآيتين ، للخيفة والخفية والتضرع أحسن انتظام ، ودلت على ذلك أكمل دلالة .
وذكر الطمع الذي هو الرجاء في آية الدعاء ؛ لأن الدعاء مبني عليه ، فإن الداعي ما لم يطمع في سؤاله ومطلوبه لم تتحرك نفسه لطلبه ، إذ طلب ما لا طمع فيه ممتنع . وذكر الخوف في آية الذكر لشدة حاجة الخائف إليه كما تقدم . فذكر في كل آية ما هو اللائق بها والأولى بها:من الخوف والطمع ، فتبارك من أنزل كلامه شفاء لما في الصدور وهدي ورحمة للمؤمنين .
وقوله تعالى:إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ
قيل:المراد أنه لا يحب المعتدين في الدعاء . كالذي يسأل ما لا يليق به من منازل الأنبياء وغير ذلك ، وقد روى أبو داود في «سنته » من حديث حماد بن سلمة عن سعيد الجريري عن أبي نعامة أن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه سمع ابنه يقول اللهم إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها ، فقال:يا بني سل الله الجنة وتعوذ به من النار ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:«إنه سيكون في هذه الآمة قوم يعتدون في الطهور والدعاء » .
وعلى هذا فالاعتداء بالدعاء تارة بأن يسأل ما لا يجوز له سؤاله من الإعانة على المحرمات ، وتارة بأن يسأل ما لا يفعله الله ، مثل أن يسأله تخليده إلى يوم القيامة ، أو يسأله أن يرفع عنه لوازم البشرية من الحاجة إلى الطعام والشراب ، أو يسأله أن يطلعه على غيبه ، أو يسأله أن يجعله من المعصومين ، أو يسأله أن يهب له ولدا من غير زوجة ولا أمة ، ونحو ذلك مما سؤاله اعتداء . فكل سؤال يناقض حكمة الله أو يتضمن مناقضة شرعه وأمره ، أو يتضمن خلاف ما أخبر به فهو اعتداء لا يحبه الله ولا يحبه رسله .
وفسر الاعتداء أيضا:برفع الصوت أيضا في الدعاء . قال ابن جريح:من الاعتداء رفع الصوت في الدعاء ، والنداء في الدعاء والصياح .
وبعد فالآية أعم من ذلك كله ، وإن كان الاعتداء في الدعاء مرادا بها فهو من جملة المراد والله لا يحب المعتدين في كل شيء ، دعاء كان أو غيره ، كما قال:{ ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين} [ البقرة:190] .
وعلى هذا فيكون قد أمر بدعائه وعبادته وأخبر أنه لا يحب أهل العدوان ، وهم الذين يدعون معه غيره ، فهؤلاء أعظم المعتدين عدوانا ، فإن أعظم العدوان هو الشرك ، وهو وضع العبادة في غير موضعها ، فهذا العدوان لا بد أن يكون داخلا في قوله:{ إنه لا يحب المعتدين} .
ومن العدوان:أن يدعوه غير متضرع ، بل دعاء مدل ، كالمستغني بما عنده المدل على ربه به ، وهذا من أعظم الاعتداء المنافي لدعاء الضارع الذليل الفقير المسكين من كل جهة في مجموع حالاته ، فمن لم يسأل مسألة مسكين متضرع خائف فهو معتد .
ومن الاعتداء:أن تعبده بما لم يشرعه ، وتثني عليه بما لم يثن به على نفسه ولا أذن فيه ، فإن هذا اعتداء في دعاء الثناء والعبادة ، وهو نظير الاعتداء في دعاء المسألة والطلب .
وعلى هذا فتكون الآية دالة على شيئين:
أحدهما:محبوب للرب تبارك وتعالى مرض له ، وهو الدعاء تضرعا وخفية .
والثاني:مكروه له مبغوض مسخوط ، وهو الاعتداء ، فأمر بما يحبه الله وندب إليه ، وحذر مما يبغضه وزجر عنه بما هو ابلغ طرق الزجر والتحذير ، وهو أنه لا يحب فاعله ، ومن لم يحبه الله فأي خير يناله ؟
وفي قوله:{ إنه لا يحب المعتدين} عقب قوله:{ ادعوا ربكم تضرعا وخفية} دليل على أن من لم يدعه تضرعا وخفية فهو من المعتدين الذين لا يحبهم .
فقسمت الآية الناس إلى قسمين:داع لله تضرعا وخفية ، ومعتد بترك ذلك .