قوله تعالى:{ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين 55 ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفا وطمعا إن رحمت الله قريب من المحسنين} .
يأمر الله في هذه الآية عباده المؤمنين بالدعاء إليه .والدعاء ضرب عظيم من ضروب العبادات .بل إنه عبادة رهيفة كريمة مميزة يتقرب بها المؤمن الداعي من ربه درجات .والحرص على الدعاء بغير كلل ولا ملل ولا قنوط دليل الإخلاص المستكين وهو يكشف أيضا عن استقرار الإيمان الوطيد في قلب المؤمن الداعي .فلا جرم أن يكون الدعاء علاقة يقين وتصديق كاملين لدى المؤمن .وهو كذلك ظاهرة أساسية ومفضلة من ظواهر العبادات على اختلاف أنواعها وضروبها .بل إن شعيرة الدعاء تأتي في طليعة العبادات جميعا إن لم تكن هي نتيجة أصيلة كبرى تؤول إليها العبادات برمتها .فما يزال المؤمن يصلي ويصوم ويتصدق ويتنسك ويتطهر ويكثر من الطاعات حتى تتعاظم صلته الروحية بخالقه العظيم ؛لعبر عن حقيقة ذلك ومداه بالدعاء الصادق المخلص .وليس أدل على هذه الحقيقة من الحديث: ( الدعاء مخ العبادة ){[1430]} .
وكذلك ما رواه كثير من أصحاب السنن والمسانيد عن النعمان بن بشير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الدعاء هو العبادة ) وذلك تعظيم للدعاء بما يجعله في ذروة المراتب من الطاعات التي يتقرب بها المرء من الله .إلى غير ذلك من الأحاديث المبينة لقدر الدعاء العظيم .هذه الشعيرة القلبية الخفية التي تشير إلى إخلاص المسلم العابد وهو يتذلل خاشعا لله بالمناجاة والرجاء .على أن الدعاء الصحيح المطلوب ما كان مضبوطا بضوابطه مما في الكتاب أو السنة لكي يكون دعاء سليما متقبلا .وهو ما تبينه الآية هنا{ادعوا ربكم تضرعا وخفية} تضرعا وخفية منصوبان على الحال ؛أي متضرعين بالدعاء مخفين له .وقيل: صفة لمصدر محذوف تقديره: ادعوه دعاء تضرع ودعاء خفية .
والتضرع ،من الضراعة وهي الخضوع والذلة والاستكانة والخشوع .تضرع إلى الله ؛أي ابتهل{[1431]} .والخفية ،خلاف العلانية وهي السر ؛لن الإسرار في الدعاء أقطع للرياء وأبعد عن الإخلال بالإخلاص .باعد الله بيننا وبين الرياء كما باعد بين المشرق والمغرب .
وعلى هذا يحاذر المؤمن كل شائبة تشوب الإخلاص في الدعاء إذا ابتغى لدعائه الاستجابة والتقبل .ومن الشوائب التي ينخرم بها الإخلاص في الدعاء المجاهرة الصارخة في الدعاء أو الصياح الرفيع المستهجن الذي يذهب ببركة العبادة ويبدد منها النقاء وحلاوة التذلل إلى الله .وإنما يدعو المؤمن ربه إسرارا وهمسا بينه وبين ربه حتى لا يدري أحد أو يسمع ما يقول .قال الحسن البصري في ذلك: أدركنا أقواما ما كان على الأرض عمل يقدرون أن يكون سرا فيكون جهرا أبدا .ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء ولا يسمع لهم صوت ،وإن هو إلا الهمس بينهم وبين ربهم{[1432]} .
واختلفوا في رفع اليدين في الدعاء ؛فقد كرهه طائفة من العلماء منهم: جبير بن مطعم وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وشريح ومسروق وعطاء وطاووس ومجاهد .وأجز رفعه آخرون من الصحابة والتابعين .واستدلوا لجواز الرفع بما رواه البخاري عن أبي موسى الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا ثم رفع يديه ورأيت بياض إبطيه .ومثل ذلك عن أنس .وفي صحيح مسلم من حديث عمر بن الخطاب قال: لما كان يوم بدر نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وهم ألف وأصحابه ثلاثمائة وسبعة عشر رجلا ،فاستقبل نبي الله صلى الله عليه وسلم القبلة مادا يديه ،فجعل يهتف بربه .. وذكر الحديث .وفي رواية عن أنس بن مالك قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفع يديه حتى يرى بياض إبطيه .
أما مدى رفع اليدين في الدعاء فهو أن يرفعهما القانت حتى تصيرا بمحاذاة صدره .وهو قول الحنفية والحنبلية .وهو ما روي عن عمر وابن عباس وابن مسعود .وفي رواية عن أنس قال فيها: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفع يديه حتى يرى بياض إبطيه ){[1433]} .
قوله:{إنه لا يحب المعتدين} الاعتداء يراد به مجاوزة الحد .وفي الحديث ما أخرجه ابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( سيكون قوم يعتدون في الدعاء ) والاعتداء في الدعاء يكون على وجوه منها: الجهر الكثير والصياح ،وهو ما بيناه في الفقرة السابقة .ومنها ان دعاءه أن يكون له منزلة نبي أو يدعو في محال مما لا يحصل إلا بمعجزة ،كما لو دعا ربه أن يصعد إلى السماء أو ينقلب له الحجر ذهبا وذلك ضرب من الشطط والعبث غير المعقول ولا المقبول في الدعاء .
وللدعاء آداب كثيره منها ان يكون الداعي على طهارة وأن يكون مستقبلا القبلة وأن يكون قلبه خاليا من شواغل الدنيا وأن يفتتح الدعاء ويختتمه بالصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن يرفع يديه نحو السماء .وأن يتحرى ساعات يستجاب فيها الدعاء منها يوم الجمعة ووقت نزول المطر وعند الإفطار .