{ ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين ( 55 )} .
كان الأمر بالدعاء بعد أن بين أن الله تعالى خلق السماوات والأرض ، وأن الله صاحب السلطان فيها ، والأمر بالدعاء يشمل دعاء الله تعالى وعبادته وحده سبحانه ، فقال تعالى:
{ ادعوا ربكم تضرعا وخفية} .
ادعوا ربكم:اعبدوه ، فالدعاء مخ العبادة . ادعوه وحده ؛ لأنه ربكم الذي خلقكم ، ويربكم ويربيكم ، ويدبر أموركم ، ولا تدعوا مع الله أحدا ، وادعوه تضرعا ، أي في ضراعة وخضوع وتذلل إلى الله - سبحانه وتعالى – وخفية ( أي ) في خفاء مستترين غير مجاهرين ، ولا معلنين ، فإن الإعلان قد ترفقه برياء ، وإن الله لا يقبل الدعاء إلا أن يكون له وحده ، فالعبادة له – سبحانه وتعالى – وحده لا يشاركه فيها أحد .
والدعاء كما قلنا يشمل العبادات من صلاة وصوم وأدعية فيها ذكر الله كثيرا ، وقد حث النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما أمر الله تعالى بأن يكون الدعاء خفية ، وإن جهر لا يكون بإعلان وضجة ، فقد روى البخاري عن أبي موسى الأشعري قال:كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في سفر ، فكنا إذا أشرفنا على واد هللنا وكبرنا ارتفعت أصواتنا ، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:( أيها الناس أربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا ، إنه معكم سميع قريب ، تبارك اسمه ، وتعالى جده ) ( 1 ){[1112]} .
وإن المأثور عن الصحابة والتابعين أنهم كانوا يدعون الله تعالى ، ويعبدونه متسترين إلا ما يكون في جماعة ، ولقد كانوا وهم في أعمالهم يدعون الله تعالى بالتوفيق والعمل الصالح ، حتى وهم في المجاهدين يدرعون بالصبر ، والالتجاء إلى الله تعالى ورجاء رحمته ونصرته ، وهم في خيرهم يتسترون ولا يجهرون ، لأن الستر يجعله خالصا لله ، مخلصين له الدين ، روي عن الحسن البصري أنه قال:( إن كان الرجل قد جمع القرآن وما يشعر به أحد ، وإن كان الرجل لقد فقه الفقه الكثير وما يشعر به الناس ، وإن كان الرجل ليصلي الصلاة الطويلة في بيته وعنده الزور وما يشعرون به ، ولقد أدركنا أقواما ما كان مع الأرض من عمل يقدرون أن يعملوه في السر ، فيكون علانية أبدا ، ولقد يجتهدون في الدعاء ، وما يسمع لهم صوت إن كان إلا همسا بينهم وبين ربهم ؛ وذلك أن الله يقول:{ ادعوا ربكم تضرعا وخفية} ؛ وذلك أن الله ذكر عبدا صالحا وحكى عنه فقال:{ إذ نادى ربه نداء خفيا ( 3 )} ( مريم ) .
وكان الدعاء ( خفية ) ذا فضل عظيم ، لأنه مناجاة الله ، وكأنه يودع ربه سره وعلانيته ، وهو مظهر المحبة ، وهو بعيد عن كل رياء ، ولأن النية مطلوبة قالوا:إن الإشارة في الدعاء إلى السماء ليست مطلوبة ، ونحن نقول:إن الدعاء الخفي أفضل من الدعاء الجلي ، بيد أن الدعاء بالجهر قد يكون مطلوبا كالتلبية ، وفي هذه الحال تجوز الإشارة بالأيدي لأن ذلك انفعال ضارع . وقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يدعو ويشير بيديه ( 2 ){[1113]} ، وقالوا:إنه كان يدعو وهو على ناقته ، فإذا مالت أخذ بزمامها بيد ، واستمرت يده الثانية الكريمة ممتدة بالدعاء ( 1 ){[1114]} .
ويختم سبحانه الآية الكريمة بقوله:{ إنه لا يحب المعتدين} .
إنه – سبحانه وتعالى – لا يحب الذين يعتدون ، أي يتجاوزون الحدود المحدودة عليهم ، فيعتدون على غيرهم ، أو يتجاوزون الأمور المفروضة عليهم ، ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه ، فتعدى الحدود أمر لا يحبه الله تعالى ، وقد يكون حراما ، كالاعتداء على حق غيره ، وقد ذكروا أن ذكر الاعتداء عقب طلب الدعاء يدل أن الاعتداء قد يكون في الدعاء .
والاعتداء في الدعاء كأن يقضي وقته كله في دعاء ، ولا يقوم بواجب الحياة ، كأولئك الذين ينقطعون للعبادة ويتركون أمر الحياة ولا يدبرون أمرها ، فذلك اعتداء في الدعاء ، وقد جيء برجل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا:هذا عابدنا ، فقال صلى الله عليه وآله وسلم:ومن يؤكله ، قالوا:أخوه يؤكله ، فقال صلى الله عليه وآله وسلم:أخوه خير منه . وكأولئك الذين ينقطعون في الزوايا ، أو ما يسمونه الخانقاه ، بحسبان أنهم يدعون الله تعالى ويعبدونه ، فإن ذلك اعتداء في الدعاء وتجاوز لحد المطلوب ، وقد روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:( سيكون قوم يعتدون في الدعاء ) ( 2 ){[1115]} . ولعله سبحانه ينبئ بهؤلاء .
ولقد ذكر القرطبي وجوها في الاعتداء في الدعاء منها:
الجهر الكثير والصياح ، ومنها أن يدعو الإنسان في أن تكون له منزلة نبي أو يدعو في محال ، ونحو هذا من الشطط ، ومنها أن يدعو طالبا معصية ، ومنها أن يدعو ما ليس في الكتاب والسنة .
وفي بعض هذه الوجوه نظر ، فالدعاء بطلبه المعصية معصية وليس بدعاء يدخل في باب العبادة ، وتجاوز المراتب الإنسانية شطط وليس بدعاء .
والله تعالى لا يستجيب إلا لما يكون حقا ، ولا يقبل من الدعاء إلا ما يكون خالصا لله ، ولا يكون قاطعا عن الحياة ومطالبها ، فإنه لا رهبانية في الإسلام .