ويقول – سبحانه – في عمارة الأرض والدعاء مع الإصلاح:
{ ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفا وطمعا إن رحمة الله قريب من المحسنين ( 56 )} .
ذكرنا أن من الاعتداء في الدعاء ، أن ينصرف عن العمل في الدنيا كاسبا متكلا على الدعاء كما يفعل الرهبان ، وإنما يجب مع ذكر الله أن يندمج مصلحا في الأرض منتجا مثمرا فإن ذلك فيه إرضاء لله ؛ لأن فيه خيرا للعباد ونفعا لهم ، و ( خير الناس أنفعهم للناس ) ( 1 ){[1116]} .
وإن الله تعالى في وسط الأمر بالدعاء نهى عن الإفساد في الأرض ، ويتضمن ذلك العمل فيها بالإنتاج والإنماء يقول تعالى:{ ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها} .
إصلاح الأرض:خلقها صالحة لأن يعيش عليها الإنسان في زرعها وغرسها ، ومستمتعا بكل حلالها وطيباتها ، وقد أرسل الرسل منذرين ومبشرين ، وهداة إلى الحق ومصلحين وعاملين للخير .
وإفسادها إشاعة الظلم ، وإفساد ما تنتج ، والتعدي التعاون على الإثم والعدوان وقطع الأشجار وحرق الثمار ، وجاء في القرطبي ( تجارة الحكام من الفساد في الأرض ) .
وترى أنه قد جاء النهي عن الفساد ، ولم يجئ الأمر بالإصلاح ؛ وذلك لأن الله تعالى تولى جعل الأرض صالحة لأن يعيش فيها أهلها آمنين مطمئنين بأن جعلها مهادا ، وجعل الجبال أوتادا ، وأنزل من السماء ماء فأخرج به ثمرات كل شيء:أخرج به حبا متراكبا ، وغروسا ذات ثمار يانعة ، فهو – سبحانه وتعالى – تولى ما به صلاح ذات الأرض ، وأرسل الرسل تصلح ما بين الناس بالحق ، وأجرى على أيديهم شرائع تهديهم إلى الرشاد ، وتأخذهم إلى الحق إن استقاموا على الطريقة ، وإذا عرفنا معنى الإصلاح الذي كان من الله تعالى في الأرض ، عرفنا معنى الإفساد الذي يكون بعد الإصلاح الأزلي الذي قرره الله تعالى فيكون الإفساد تخريب العامر ، وقطع القائم وإهلاك الحرث والنسل ، وتعطيل شرائع الله ، وإشاعة الأخلاق الفاسدة ، وإثارة الغرائز الفتاكة والقاتلة لكل فضيلة بين الناس ، وفتح باب الرشا وأكل السحت .
وقوله:{ بعد إصلاحها} ، تقرير لواقع الأمور ؛ لأن الفساد لا يكون إلا تقويضا لصالح ، وإنه في وسط تلك المعرفة القائمة بين الصلاح والفساد ، مع الامتناع عن الثاني يكون الالتجاء إلى الله تعالى ؛ ولذا قال تعالى:{ وادعوه خوفا وطمعا} .
أي ندعوا إليه – سبحانه وتعالى – بدعاء:ربكم الذي خلقكم ويكلؤكم بعنايته وتدبيره وحكمته{ خوفا وطمعا} ، أي خائفين من مغبة أعمالكم في الحياة ( الدنيا ) ، ومن آثارها في اليوم ( الآخر ) ، وطامعين في غفرانه ورحمته التي وسعت كل شيء رحمة وفضلا . فمعنى{ خوفا} أي خائفين من عذابه ،{ وطمعا} أي طامعين في غفرانه . وإن الله تعالى يقرن رجاءه بخوفه ، ورحمته بخوف عذابه .
قال تعالى:{ نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم ( 49 ) وأن عذابي هو العذاب الأليم ( 50 )} ( الحجر ) وقدم – سبحانه وتعالى – الخوف على الطمع ؛ بأنه يجب على المؤمن أن يغلب الخوف على الرجاء ؛ لأن من غلب الخوف على الرجاء أمن واحترس ، وسار على الصراط المستقيم آمنا ، وإن غلب الطمع ، ربما انساق وراءه ، وإذا انساق ربما سار في غير الطريق السوي .
ولقد قرب الله تعالى رحمته لعباد ، فقال:{ إن رحمة الله قريب من المحسنين} .
المحسنون هم الذين أجادوا أعمالهم في الدنيا ، وبلغوا بها الكمال الإنساني ، وبالغوا في أداء واجبهم ، وزادوا عليه وأطاعوا ربهم في كل ما أوجبه عليهم وألزمهم به .
ورحمة الله غفرانه ( ذنوبهم ) ، والإنعام عليهم ، وان يكتب لهم الثواب بفضل منه وكرم ، وقد قال تعالى في دعاء الأبرار:
{ واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة إنا هدنا إليك قال عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون ( 156 )} ( الأعراف ) .
وقوله تعالى:{ إن رحمت الله قريب من المحسنين} فيها إشارة إلى أن الله تعالى يعطي رحمته لمن يستحقها بغير حساب ، ومن غير تسويف ، والمسافة بين الرحمة وطالبها قريبة إن قدم لها العمل الصالح وعدم الإفساد .
وهنا بحث لفظي ، يقول الله تعالى:{ قريب} على أنها خبر لرحمة ، وهي مؤنث لفظي لحقته التاء ، وكان مقتضى السياق اللغوي أن يقول ( قريبة ) بدل ( قريب ) .
خرج بعض النحاة ذلك على أن ( رحمة ) مؤنث مجازي ، ولا يلزم في خبره التأنيث ، بل يجوز فيه التذكير .
وبعضهم قال بتقدير مكانها ، فقال السياق:( وإن رحمة الله مكانها قريب ) أي أنها سهلة في الوصول إليهم ؛ لأنه كلما قرب المكان كان الوصول إليها أسهل .
وخرج آخرون بأن الرحمة متضمنة معنى الثواب أو الغفران ، وهو مذكر .
وهذه وغيرها تخريجات نحاة ليستقيم إعرابهم ، أما كلام الله فهو فوق طرائق إعرابها وهو سليم منزه عن أي عيب بياني .