فصل
قال أكثر المفسرين:لا تفسدوا فيها بالمعاصي والدعاء إلى غير طاعة الله بعد إصلاح الله إياها ببعث الرسل وبيان الشريعة ، والدعاء إلى طاعة الله .
فإن عبادة غير الله والدعوة إلى غيره والشرك به هو أعظم فساد في الأرض ، بل فساد الأرض في الحقيقة إنما هو بالشرك به ومخالفة أمره قال تعالى:{ ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس} [ الروم:41] وقال عطية في الآية:ولا تعصوا في الأرض ، فيمسك الله المطر ، ويهلك الحرث بمعاصيكم . وقال غير واحد من السلف:إذا قحط المطر فإن الدواب تلعن عصاة بني آدم ، وتقول:اللهم العنهم ، فبسببهم أجدبت الأرض وقحط المطر .
وبالجملة:فالشرك والدعوة إلى غير الله ، وإقامة معبود غيره ومطاع متتبع غير رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أعظم الفساد في الأرض ، ولا صلاح لها ولا لأهلها إلا أن يكون الله وحده هو المعبود ، والدعوة له لا لغيره ، والطاعة والاتباع لرسوله صلى الله عليه وسلم ليس إلا ، وغيره إنما تجب طاعته إذا أمر بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم ، فإذا أمر بمعصيته وخلاف شريعته فلا سمع له ولا طاعة ، فإن الله أصلح الأرض برسوله صلى الله عليه وسلم ودينه ، وبالأمر بتوحيده ، ونهي عن إفسادها بالشرك به وبمخالفة رسوله صلى الله عليه وسلم .
ومن تدبير أحوال العالم وجد كل صلاح في الأرض فسببه توحيد الله وعبادته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وكل شر في العالم وفتنة وبلاء وقحط وتسليط عدو وغير ذلك فسببه مخالفة رسوله صلى الله عليه وسلم والدعوة إلى غير الله ورسوله صلى الله عليه وسلم .
ومن تدبر هذا حق التدبر وتأمل أحوال العالم منذ قام إلى الآن ، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين - وجد هذا الأمر كذلك في خاصة نفسه وفي حق غيره عموما وخصوصا ، ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
فصل
وقوله تعالى:{ وادعوه خوفا وطمعا}
إنما كرر الأمر بالدعاء لما ذكر معه من الخوف والطمع . فأمر أولا بدعائه تضرعا وخفية ، ثم أمر بأن يكون الدعاء أيضا خوفا وطمعا ، وفصل بين الجملتين بجملتين:
إحداهما:خبرية ومتضمنة للنهي ، وهي قوله:{ إنه لا يحب المعتدين} .
والثانية:طلبية ، وهي قوله:{ ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها} .
والجملتان مقررتان مقويتان للجملة الأولى ، مؤكدتان لمضمونها .
ثم لما ثم تقريرها تقدم وبيان ما يضادها ويناقضها أمر بدعائه خوفا وطمعا ، ثم قرر ذلك وأكد مضمونة بجملة خبرية ، وهي قوله:{ إن رحمة الله قريب من المحسنين} فتعلق هذه الجملة بقوله:{ وادعواه خوفا وطمعا} كتعلق قوله:{ إنه لا يحب المعتدين بقوله{ ادعوا ربكم تضرعا وخفية .
ولما كان قوله تعالى:{ وادعوه خوفا وطمعا} مشتملا على جميع مقامات الإيمان والإحسان ، وهي الحب والخوف والرجاء:عقبها بقوله:إن رحمة الله قريب من المحسنين} أي إنما ينال من دعاة خوفا وطمعا ، فهو المحسن والرحمة قريب منه ؛ لأن مدار الإحسان على هذه الأصول الثلاثة .
ولما كان دعاء التضرع والخفية يقابله الاعتداء بعدم التضرع والخفية عقب ذلك بقوله:{ إنه لا يحب المعتدين} .
وانتصاب قوله:«تضرعا ، وخفية ، وخوفا ، وطمعا » قيل:هو على الحال أي ادعوه متضرعين مخفين خائفين طامعين ، وهذا هو الذي رجحه السهيلي وغيره .
وقيل:هو نصب على المفعول له ، وهذا قول كثير من النحاة .
وقيل:هو نصب على المصدر .
وفيه على هذا تقديران:.
أحدهما:أنه منصوب بفعل مقدر من لفظ المصدر ، والمعنى:تضرعوا إليه تضرعا وأخفوا خفية .
الثاني:أنه منصوب بالفعل المذكور نفسه ؛ لأنه في معنى المصدر ، فإن الداعي متضرع طامع في حصول مطلوبه خائف من فواته ، فكأنه قال:تضرعوا تضرعا .
والصحيح في هذا:أنه منصوب على الحال ، والمعنى عليه ، فإن المعنى ادعوا ربكم متضرعين إليه خائفين طامعين . ويكون وقوع المصدر موقع الاسم على حد قوله:{ ولكن البر من آمن بالله} [ البقرة:177] . وقولهم:رجل عدل ، ورجل صوم . قال الشاعر:
فإنما هي إقبال وإدبار *** . . .
وهو أحسن من أن يقال:ادعوه متضرعين خائفين وأبلغ . والذي حسنه أن المأمور به هنا شيئان:الدعاء الموصوف المقيد بصفة معينة وهي صفة التضرع والخوف والطمع . فالمقصود تقييد المأمور به بتلك الصفة ، وتقييد الموصوف الذي هو صاحبها بها ، فأتى بالحال على لفظ المصدر لصلاحيته لأن يكون صفة للفاعل وصفة للفعل المأمور به .
فتأمل هذه النكتة فإنك إذا قلت:اذكر ربك تضرعا فإنك تريد:أذكره متضرعا إليه ، واذكره ذكر تضرع ، فأنت مريد للأمرين معا .
ولذلك إذا قلت:ادعه طمعا أي ادعه دعاء طمع وادعه طامعا في فضله .
وكذلك إذا قلت:ادعه رغبة ورهبة ، كقوله تعالى:{ إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا} [ الأنبياء:90] كان المراد:ادعه راغبا وراهبا وادعه دعاء رغبة ورهبة .
فتأمل هذا الباب تجده كذلك ، فأتى فيه بالمصدر الدال على وصف المأمور به بتلك الصفة ، وعلى تقييد الفاعل بها تقييد صاحب الحال بالحال .
ومما يدل على هذا:أنك تجد مثل هذا صالحا وقوعه جوابا لكيف . فإذا قيل:كيف أدعوه ؟ قيل:تضرعا وخفية ، وتجد اقتضاء «كيف » لهذا أشد من اقتضاء «لِمَ » ولو كان مفعولا له لكان جوابا للم ، ولا تحسن هنا . ألا ترى أن المعنى ليس عليه ، فإنه لا يصح أن يقال:لم أدعوه ؟ فيقول:تضرعا وخفية . وهذا واضح ، ولا هو انتصاب على المصدر المبين للنوع الذي لا يتقيد به الفاعل لما ذكرناه من صلاحيته جوابا لكيف .
وبالجملة:فالمصدرية في هذا الباب لا تنافي الحال ، بل الإتيان بالحال هاهنا بلفظ المصدر يفيد ما يفيده المصدر مع زيادة فائدة الحال ، فهو أتم معنى ولا تنافي بينهما . والله أعلم .
فصل
تفسير قوله تعالى:{ إن رحمة الله قريب من المحسنين} .
فيه تنبيه ظاهر على أن فعل هذا المأمور به هو الإحسان المطلوب منكم ، ومطلوبكم أنتم من الله هو رحمته القريبة من المحسنين الذين فعلوا ما أمروا به من دعائه خوفا وطمعا ، فقرب مطلوبكم منكم ( وهو الرحمة ) بحسب أدائكم لمطلوبه منكم ( وهو الإحسان ) الذي هو في الحقيقة إحسان إلى أنفسكم . فإن الله تعالى هو الغني الحميد ، وإن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم .
وقوله:{ إن رحمة الله قريب من المحسنين} له دلالة بمنطوقه ، ودلالة بإيمائه وتعليله ، ودلالة بمفهومه .
فدلالته بمنطوقه:على قرب الرحمة من أهل الإحسان ودلالته بتعليله وإيمائه:على أن هذا القرب مستحق بالإحسان فهو السبب في قرب الرحمة منهم ، ودلالته بمفهومه:على بعد الرحمة من غير المحسنين . فهذه ثلاث دلالات لهذه الجملة .
وإنما اختص أهل الإحسان بقرب الرحمة منهم لأنها إحسان من الله أرحم الراحمين وإحسانه تعالى إنما يكون لأهل الإحسان ؛ لأن الجزاء من جنس العمل فكما أحسنوا بأعمالهم أحسن إليهم برحمته . وأما من لم يكن من أهل الإحسان فإنه لما بعد عن الإحسان بعدت عنه الرحمة بعدا ببعد وقربا بقرب ، فمن تقرب بالإحسان تقرب الله إليه برحمته ومن تباعد عن الإحسان تباعد الله عنه برحمته . والله سبحانه يحب المحسنين وببغض من ليس من المحسنين ، ومن أحبه الله فرحمته أقرب شيء منه ومن أبغضه فرحمته أبعد شيء منه .
والإحسان هاهنا هو:فعل المأمور به سواء كان إحسانا إلى الناس أو إلى نفسه .
فأعظم الإحسان:الإيمان والتوحيد والإنابة إلى الله والإقبال عليه والتوكل عليه وأن يعبد الله كأنه يراه إجلالا ومهابة وحياء ومحبة وخشية ، فهذا هو مقام الإحسان ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم وقد سأله جبريل عن الإحسان ؟
فقال:«أن تعبد الله كأنك تراه » ، وإذا كان هذا هو الإحسان فرحمه الله قريب من صاحبه ، فإن الله إنما يرحم أهل توحيده المؤمنين به ، وإنما كتب رحمته{ للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون} [ الأعراف:156] ، والذين يتبعون رسوله صلى الله عليه وسلم فهؤلاء هم أهل الرحمة ، كما أنهم هم المحسنون ، وكما أحسنوا جوزوا بالإحسان . و{ هل جزاء الإحسان إلا الإحسان} [ الرحمن:60] يعني:هل جزاء من أحسن عبادة ربه إلا أن يحسن ربه إليه ؟ قال ابن عباس رضي الله عنهما:هل جزاء من قال لا إله إلا الله وعمل بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم إلا الجنة ؟
وقد ذكر ابن أبي شيبة وغيره من حديث الزبير بن عدي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال:«قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم:{ هل جزاء الإحسان إلا الإحسان} ، ثم قال هل تدرون ما قال ربكم ؟ قالوا:الله ورسوله أعلم ، قال يقول:هل جزاء من أنعمت عليه بالتوحيد إلا الجنة ؟ »
فصل
وأما الإخبار عن الرحمة - وهي مؤنثة بالتاء - بقوله{ قريب} وهو مذكر ففيه اثنا عشر مسلكا نذكرها ونبين ما فيها من صحيح وسقيم ومقارب:
( المسلك الأول ):أن فعيلا على ضربين:
أحدهما:يأتي بمعنى فاعل كقدير وسميع وعليم .
والثاني:يأتي بمعنى مفعول كقتيل وجريح ، وكف خضيب . وطرف كحيل وشعر دهين ، كله بمعنى مفعول . فإذا أتى بمعنى فاعل فقياسه أن يجري مجراه في إلحاق التاء به مع المؤنث دون المذكر كجميل وجميلة وشريف وشريفة وصبيح وصبيحه وصبي وصبية ومليح ومليحة وطويل وطويلة ونحوه . وإذ أتى بمعنى مفعول فلا يخلو إما أن يصحب الموصوف كرجل قتيل وامرأة قتيل أو يفرد عنه . فإن صحب الموصوف استوى فيه المذكر والمؤنث كرجل قتيل وامرأة قتيل ، وإن لم يصحب الموصوف فإنه يؤنث إذا جرى على المؤنث نحو قتيلة بني فلان . ومنه قوله تعالى:{ حرمت عليكم الميتة - إلى قوله – والنطيحة} [ المائدة:3] هذا حكم فعيل ، وفعول قريب منه لفظا ومعنى ، فإنهما مشتبهان في الوزن والدلالة على المبالغة وورودها بمعنى فاعل ومفعول .
ولما كان فعيل أخف استغنى به عن فاعل في المضاعف كجليل وعزيز وذليل كراهية منهم لثقل التضعيف إذ قالوا:جالل وعازز وذالل ، فأتوا بفعيل مفصولا فيه بين المثلين بالياء الساكنة ، ولم يأتوا في هذا بفعول ؛ لأن فعيلا أخف منه ولخفته أيضا اطرد بناؤه من فعل كشريف وظريف وجميل ونبيل وليس لفعول بناء يطرد منه ولخفته أيضا كان في أسماء الله تعالى أكثر من فعول ، فإن الرحيم والقدير والحسيب والجليل والرقيب ونظائره أكثر من ألفاظ الرؤوف والغفور والشكور ، والصبور ، والودود ، والعفو ، ولا يعرف إلا هذه الألفاظ الستة .
وإذا ثبت التشابه بين وفعيل فعول فيما ذكرناه وكانوا قد خصوا فعولا الذي بمعنى فاعل بتجريده من التاء الفارقة بين المذكر والمؤنث وشركوا بينهما في لفظ المذكر فقالوا:رجل صبور وشكور وامرأة صبور وشكور ونظائرهما وأما عدو وعدوة فشاذ . فإن قصد بالتاء المبالغة لحقت المذكر والمؤنث كرجل ملولة وفروقة وامرأة كذلك ، وإن كان فعول في معنى مفعول لحقته التاء في المؤنث كحلوبة وركوبة .
فإذا تقرر ذلك:فقريب في الآية هو:«فعيل » بمعنى فاعل وليس المراد أنه بمعنى قارب بل بمعنى اسم الفاعل العام . فكان حقه أن يكون بالتاء ولكنهم أجروه مجرى فعيل بمعنى مفعول فلم يلحقوه التاء كما جرى فعيل بمعنى مفعول مجرى فعيل بمعنى فاعل في إلحاقه التاء كما قالوا خصلة حميدة وفعلة ذميمة بمعنى محمودة ومذمومة فحملا على جميلة وشريفة في لحاق التاء فحملوا قريبا على امرأة قتيل وكف خضيب وعين كحيل في عدم إلحاق التاء حملا لكل من البابين على الآخر .
ونظيره قوله تعالى:{ قال من يحيى العظام وهي رميم} [ يس:78] فحمل رميما وهي بمعنى فاعل على امرأة قتيل وبابه فهذا المسلك هو من أقوى مسالك النحاة وعليه يعتمدون .
وقد اعترض عليه بثلاثة اعتراضات:
أحدها:أن ذلك يستلزم التسوية بين اللازم والمتعدي فإن فعيلا بمعنى مفعول بابه الفعل المتعدى وفعيلا بمعنى فاعل بابه الفعل اللازم ؛ لأنه غالب ما يأتي من فعل المضموم العين فلو جرى على أحدهما حكم الآخر لكان ذلك تسوية بين اللازم والمتعدي وهو ممتنع .
الاعتراض الثاني:أن هذا إن ادعى على وجه العموم فباطل ، وإن ادعى على سبيل الخصوص فما الضابط وما الفرق بين ما يسوغ فيه هذا الاستعمال وما لا يسوغ ؟
الاعتراض الثالث:أن العرب قد نطقت في فعيل بالتاء ، وهو بمعنى مفعول وجردته من التاء وهو بمعنى فاعل قال جرير يرثي خالته:
نعم القرين وكنت علق مضنه *** وارى بنعق بلية الأحجار
فجرد القرين من التاء وهو بمعنى فاعل . وقال:
فسقاك حيث حللت غير فقيدة *** هزج الرواح وديمة لا تقلع
فقرن فقيدة بالتاء وهو فعيل بمعنى مفعول أي غير مفقودة . وقال الفرزدق:
فداويته عامين وهي قريبة *** أراها وتدنوا لي مرار وأرشف
ويقولون:امرأة فتين وسريح وهريت فجردوه عن التاء ، وهو بمعنى فاعل وقالوا:امرأة فروك وهلوك ورشوف وأنوف ورضوف فجردوه وهو بمعنى فاعل كصبور ، وقالوا امرأة عروب فجردوه أيضا ثم قالوا امرأة ملولة وفروقة فقرنوه بالتاء وهو بمعنى فاعل أيضا ، ودعوى أن التاء هاهنا للمبالغة لا دليل عليها فقد رأيت اشتراك فعول وفعيل في الاقتران بالتاء والتجرد منها ، فدعوى أصالة المجرد منهما وشذوذ المقرون مقابلة بمثلها ومع مقابلها قياس اللغة في اقتران المؤنث وتجريد المذكر . وأما ما استشهدتم به من قوله تعالى:{ من يحيي العظام وهي رميم [ يس:78] فهو على وفق قياس العربية ، فإن العظام جمع عظم وهو مذكر ولكن جمعه جمع تكسير وجمع التكسير يجوز أن يراعى فيه تأنيث الجماعة وباعتباره قال «وهي » ولم يقل وهو . ويراعى فيه معنى الواحد وباعتبار قال «رميم » كما يقال:«عظم رميم » مع أن رميما يطلق على جمع المذكر مفردا وجمعا . قال جرير:
آل المهلب جذ الله دابرهم *** أمسو رميما فلا أصل ولا طرف
فهذا الاعتراض على هذا المسلك
فصل
( المسلك الثاني ):أن قريبا في الآية من باب تأويل المؤنث بمذكر موافق له في المعنى كقول الشاعر:
أرى رجلا منهم أسيفا كأنما *** يضم إلى كشحيه مخضبا
فكف:مؤنث ، ولكن تأويله بمعنى عضو وطرف فذكر صفته فكذلك تتؤل الرحمة وهي مؤنثة بالإحسان فيذكر خبرها .
قالوا:وتأويل الرحمة بالإحسان أولى من تأويل الكف بعضو ، لوجهين:
أحدهما:أن الرحمة معنى قائم بالرحم ، والإحسان هو بر المرحوم ، ومعنى القرب في البر من المحسنين أظهر منه في الرحمة .
الثاني:أن ملاحظة الإحسان بالرحمة الموصوفة بالقرب من المحسنين هو مقابلة للإحسان الذي صدر منهم وباعتبار المقابلة ازداد المعنى قوة واللفظ جزالة حتى كأنه قال إن إحسان الله قريب من أهل الإحسان ، كما قال تعالى:{ هل جزاء الإحسان إلا الإحسان} [ الرحمن:60] فذكر قريبا ليفهم منه أنه صفة لمذكر وهو الإحسان فيفهم المقابلة المطلوبة .
قالوا:ومن تأويل المؤنث بمذكر ما أنشده الفراء:
وقائع في مضر تسعة *** وفي وائل كانت العاشرة
فتأول الوقائع وهي مؤنثة بأيام الحرب المذكرة فأنث العدد الجاري عليها فقال «تسعة » ولولا هذا التأويل لقال «تسع » لأن الوقائع مؤنثة .
قالوا:وإذا جاز تأويل المذكر بمؤنث في قول من قال:جاءته كتابي أي صحيفتي ، وفي قول الشاعر:
يا أيها الراكب المزجي مطيته *** سائل بني أسد:ما هذه الصوت ؟
أي ما هذه الصيحة مع أنه حمل أصل على فرع فلأن يجوز تأويل مؤنث بمذكر لكونه حلم فرع على أصل أولى وأحرى وهذا وجه جيه .
وقد اعترض عليه باعتراضين فاسدين غير لازمين:
أحدهما:أنه لو جاز تأويل المؤنث بمذكر يوافقه وعكسه لجاز أن يقال:كلمتني زيد ، أكرمتني عمرو ، وكلمني هند وأكرمني زينب ، تأويلا لزيد وعمرو بالنفس والجثة ، وتأويلا لهند وزينب بالشخص والشبح ، وهذا باطل ، وهذا الاعتراض غير لازم ، فإنهم لم يدعوا اطراد ذلك ، وإنما ادعوا أنه مما يسوغ أن يستعمل ، وفرق بين ما يسوغ في بعض الأحيان وبين ما يطرد ، كرفع الفاعل ونصب المفعول ، وهم لم يدعوا أنه من القسم الثاني .
ثم إن هذا الاعتراض مردود بكل ما يسوغ استعماله بمسوغ وهو غير مطرد وهو أكثر من أن يذكر هاهنا ولا ينكره نحوي أصلا .
وهل هذا إلا اعتراض على قواعد العربية بالتشكيكات والمناقضات ، وأهل العربية لا يلتفتون إلى شيء من ذلك ، فلو أنهم قالوا:يجوز تأويل كل مؤنث بمذكر يوافقه وبالعكس لصح النقض ، وإنما قالوا يسوغ أحيانا تأويل أحدهما بالآخر لفائدة يتضمنها التأويل كالفائدة التي ذكرناها من تأويل الرحمة بالإحسان .
الاعتراض الثاني:أن حمل الرحمة على الإحسان إما أن يكون حملا على حقيقتة أو مجازة وهما ممتنعان . فإن الرحمة والإحسان متغايران لا يلزم من أحدهما وجود الآخر ؛ لأن الرحمة قد توجد وافرة في حق من لا يتمكن من الإحسان كالوالدة العاجزة ونحوها . وقد يوجد الإحسان ممن لا رحمة في طباعة كالملك القاسي فإنه قد يحسن إلى بعض أعدائه وغيرهم لمصلحة ملكه مع أنه لا رحمة عنده ، وإذا تبين انفكاك أحدهما عن الآخر لم يجز إطلاقه عليه لا حقيقة ولا مجازا .
أما الحقيقة فظاهر . وأما المجاز:فإن شرطه خطور المعنى المجازي بالبال ليصح انتقال الذهن إليه فإذا كان منفكا عن الحقيقة لم يخطر بالذهن .
وهذا الاعتراض أفسد من الذي قبله ، وهو من باب التعنت والمناكدة ، وأين هذا من قول أكثر المتكلمين - ولعل هذا المعترض منهم - «أنه لا معنى للرحمة غائبا إلا الإحسان المحض . وأما الرقة التي في الشاهد فلا يوصف الله تعالى بها وإنما رحمته مجرد إحسانه ، ومع أنا لا نرتضي هذا القول بل تثبت لله تعالى الرحمة حقيقة كما أثبتها لنفسه منزهة مبراة عن خواص صفات المخلوقين كما نقوله في سائر صفاته من إرادته وسمعه وبصره وعلمه وحياته وعلمه وحياته وسائر صفات كماله - فلم نذكره إلا لنبين فساد اعتراض هذا المعترض على قول أئمته ومن قال بقول المتكلمين .
ثم نقول:الرحمة لا تنفك عن إرادة الإحسان فهي مستلزمة للإحسان أو إرادته ، استلزام الخاص للعام ، فكما يستحيل وجود الخاص بدون العام فكذلك الرحمة بدون الإحسان أو إرادته يستحيل وجودها .
وأما قضية الأم العاجزة:فإنها وإن لم تكن تقدر على الإحسان بالفعل فهي محسنة بالإرادة فرحمتها لا تنفك عن إرادتها التامة للإحسان التي يقترن بها مقدورها إما بدعاء وإما بإيثار بما تقدر عليه ونحو ذلك ، فتخلف بعض الإحسان الذي لا تقدر عليه عن رحمتها لا يخرج رحمتها عن استلزامها للإحسان المقدور وهذا واضح ، وأما الملك القاسي إذا أحسن فإن إحسانه لا يكون رحمة ؛ فهذا لأن الإحسان أعم من الرحمة والأعم لا يستلزم الأخص ، وهم لم يدعوا ذلك فلا يلزمهم .
وأيضا فإن الإحسان قد يقال إنه يستلزم الرحمة وما فعله الملك المذكور فليس بإحسان في الحقيقة ، وإن كانت صورته صورة الإحسان .
وبالجملة:فالعنت والمناكدة على هذا الاعتراض أبين من أن يتكلف معه رده وإبطاله فصل
( المسلك الثالث ):أن «قريبا » في الآية من باب حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه مع الالتفات إلى المحذوف ، فكأنه قال:إن مكان الرحمة قريب من المحسنين ، ثم حذف المكان وأعطى الرحمة إعرابه وتذكيره ، ومن ذلك قول حسان رضي الله عنه:
يسقون من ورد البريض عليهم *** بردي يصفق بالرحيق السلسل
فقال «يصفق » بالياء و«بردى » هي مؤنث لأنه أراد ماء بردى ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم وقد أخذ بيديه ذهبا وحريرا فقال:«هذان حرام على ذكور أمتي » ، فقال:«حرام » بالإفراد والمخبر عنه مثنى ، كأنه قال:استعمال هذين حرام . وهذا المسلك ضعيف جدا لأن حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه لا يسوغ ادعاؤه مطلقا وإلا لالتبس الخطاب وفسد التفاهم ، وتعطلت الأدلة ، إذ ما من لفظ أمر أو نهي أو خبر متضمن مأمورا به ومنهيا عنه ، ومخبرا إلا ويمكن على هذا أن يقدر له لفظ مضاف ، يخرجه عن تعلق الأمر والنهي والخبرية ، فيقول الملحد في قوله:{ ولله على الناس حج البيت} [ آل عمران:97] أي معرفة حج البيت{ كتب عليكم الصيام} [ البقرة:183] أي معرفة الصيام ، وإذا فتح هذا الباب فسد التخاطب وتعطلت الأدلة ، وإنما يضمر المضاف حيث يتعين ولا يصح الكلام إلا بتقديره للضرورة ، كما إذا قيل أكلت الشاة » فإن المفهوم من ذلك أكلت لحمها فحذف المضاف لا يلبس ، وكذلك إذا قلت:«أكل فلان كبد فلان » إذا أكل ماله فإن المفهوم أكل ثمرة كبده فحذف المضاف هنا لا يلبس ونظائره كثيرة .
وليس منه{ واسأل القرية} [ يوسف:82] وإن كان أكثر الأصوليين يمثلون به فإن القرية اسم للسكان في مسكن مجتمع فإنما تطلق القرية باعتبار الأمرين كالكأس لما فيه من الشراب ، والذنوب للدلو الملآن ماء ، والخوان للمائدة إذا كان عليها طعام ونظائره .
ثم إنهم لكثرة استعمالهم لهذه اللفظه ودورانها في كلامهم أطلقوها على السكان تارة وعلى المسكن تارة بحسب سياق الكلام وبساطه ، وإنما يفعلون هذا حيث لا لبس فيه فلا إضمار في ذلك ولا حذف .
فتأمل هذا الموضع الذي خفي على القوم مع وضوحه .
وإذا عرفت هذا فقوله:{ إن رحمة الله قريب من المحسنين} [ الأعراف:56] ليس في اللفظ ما يدل على إرادة موضع ولا مكان أصلا فلا يجوز دعوى إضماره بل دعوى إضمار خطأ قطعا ، لأنه يتضمن الإخبار بأن المتكلم أراد المحذوف ولم ينصب على إرادته دليلا لا صريحا ولا لزومها ، فدعوى المدعي أنه أراده:دعوى باطلة .
وأما قوله «بردى يصفق » فليس أيضا من باب حذف المضاف بل أراد ببردى النهر ، وهو مذكر ، فوصفه بصفة المذكر فقال «يصفق » فلم يذكر بناء على حذف المضاف ، وإنما ذكر بناء على أن بردى المراد به النهر .
فإن قلت:فلا بد من حذف مضاف لأنهم إنما يسقون ماء بردى لا نفس النهر .
قلت:هذا وإن كان مراد الشاعر فلم يلزم منه صحة ما ادعاه من أنه ذكر «يصفق » باعتبار الماء المحذوف ، فإن تذكيره إنما يكون باعتبار إرادة النهر وهو مذكر فلا يدل على ما ادعوه .
وأما قوله صلى الله عليه وسلم:«هذان حرام » ففي إفراد الخبر سر بديع جدا وهو التنبيه والإشارة على أن كل واحد منهما بمفرده موصوف بأنه حرام ، فلو ثنى الخبر لم يكن فيه تنبيه على هذا المعنى ، فلهذا أفرد الخبر ، فكأنه قال:وكل واحد من هذين حرام فدل إفراد الخبر على إرادة الإخبار عن كل واحد واحد بمفرده .
فتأمله فإنه من بديع اللغة ، وقد تقدم بيانه في هذا التعليق في مسألة «كلا وكلتا » وإن قولهم:كلاهما قائم بالإفراد لا يدل على أن «كلا » مفرد كما ذهب إليه البصريون بل هو مثنى حقيقة ، وإنما أفردوا الخبر للدلالة على أن الإخبار عن كل واحد منهما بالقيام ، وقد قررنا ذلك هناك بما فيه كفاية .
فصل
( المسلك الرابع ):أنه من باب حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه ، كأنه قال:إن رحمة الله شيء قريب من المحسنين ، أو لطف قريب ، أو بر قريب ونحو ذلك وحذف الموصوف كثير . فمنه قول الشاعر:
قامت تبكيه على قبره *** من لي من بعدك يا عامر ؟
تركتني في الدار ذا غربة *** قد ذل من ليس له ناصر
المعنى:تركتني شخصا أو إنسانا ذا غربة ، ولولا ذلك لقالت:تركتني ذات غربة ، ومنه قول الآخر:
فلو أنك في يوم الرخاء سألتني *** فراقك لم أبخل وأنت صديق
أراد:وأنت شخص أو إنسان صديق .
وعلى هذا المسلك حمل سيبويه قولهم للمرأة:حائض وطامث وطالق ، فقال:كأنهم قالوا:شيء حائض ، وشيء طامث ، وهذا المسلك أيضا ضعيف لثلاثة أوجه:
أحدها:أن حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامة إنما يحسن بشرطين أن تكون الصفة خاصة يعلم ثبوتها لذلك الموصوف بعينه لا لغيره .
الثاني:أن تكون الصفة قد غلب استعمالها مفردة على الموصوف كالبر والفاجر والعالم والجاهل ، والمتقي والرسول والنبي ونحو ذلك مما غلب استعمال الصفة فيه مجردة عن الموصوف فلا يكاد يجيء ذكر الموصوف معها كقوله تعالى:{ إن الأبرار لفي نعيم * وإن الفجار لفي جحيم} [ الانفطار:13 . 14] وقوله:{ إن المتقين في جنات وعيون} [ الحجر:45 – الذاريات:15] وقوله:{ إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات} [ الأحزاب:35] وقوله:{ والكافرون هم الظالمون} [ البقرة:254] وهو كثير جدا في القرآن وكلام العرب . وبدون ذلك لا يحسن الاقتصار على الصفة فلا يحسن أن تقول:جاءني طويل ورأيت جميلا أو قبيحا ، وأنت تريد جاءني رجل طويل ورأيت رجلا جميلا أو قبيحا ، ولا تقول سكت في قريب . تريد في مكان قريب ، مع دلالة السكنى على المكان .
الثالث:أن الشيء أعم المعلومات فإنه يشمل الواجب والممكن ، فليس في تقديره ولا في اللفظ به زيادة فائدة يكون الكلام بها فصيحا بليغا فضلا عن أن يكون بها في أعلى مراتب الفصاحة والبلاغة ، وأي فصاحة وبلاغة في قول القائل في حائض وطامث وطالق:شيء حائض وشيء طامث وشيء طالق ؟ وهو لو صرح بهذا لاستهجنه السامع ، فكيف يقدر في الكلام مع أنه لا يتضمن فائدة أصلا ؟ إذ كونه شيئا أمر معلوم عام لا يدل على مدح ولا ذم ولا كمال ولا نقصان .
وينبغي أن يتفطن هاهنا لأمر لا بد منه وهو أنه لا يجوز أن يحمل كلام الله - عز وجل - ويفسر بمجرد الاحتمال النحوي الإعرابي الذي يحتمله تركيب الكلام ويكون الكلام به له معنى ما ، فإن هذا مقام غلط فيه أكثر المعربين للقرآن فإنهم يفسرون الآية ويعربونها بما يحتمله تركيب تلك الجملة ويفهم من ذلك التركيب أي معنى اتفق وهذا غلط عظيم يقطع السامع بأن مراد القرآن غيره ، وإن احتمل ذلك التركيب هذا المعنى في سياق آخر وكلام آخر ، فإنه لا يلزم أن يحتمله القرآن ، مثل قول بعضهم في قراءة من قرأ:{ والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا} [ النساء:1] بالجر:أنه قسم ، ومثل قول بعضهم في قوله تعالى:{ وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام} [ البقرة:217] أن المسجد مجرور بالعطف على الضمير المجرور في به ، ومثل قول بعضهم في قوله تعالى:{ لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك والمقيمين الصلاة} [ النساء:162] أن المقيمين مجرور بواو القسم . ونظائر ذلك أضعاف أضعاف ما ذكرنا وأوهى بكثير .
بل للقرآن عرف خاص ومعان معهودة لا يناسبه تفسيره بغيرها ولا يجوز تفسيره بغير عرفة والمعهود من معانية فإن نسبة معانية إلى المعاني كنسبة ألفاظه إلى الألفاظ بل أعظم ، فكما أن ألفاظه ملوك الألفاظ وأجلها وأفصحها ولها من الفصاحة أعلى مراتبها التي يعجز عنها قدر العالمين فكذلك معانية أجل المعاني وأعظمها وأفخمها ، فلا يجوز تفسيره بغيرها من المعاني التي لا تليق به بل غيرها أعظم منها وأجل وأفخم ، فلا يجوز حمله على المعاني القاصرة بمجرد الاحتمال النحوي الإعرابي .
فتدبر هذه القاعدة ولتكن منك على بال فإنك تنتفع بها في معرفة ضعف كثير من أقوال المفسرين وزيفها وتقطع أنها ليست مراد المتكلم تعالى بكلامه .
وسنزيد هذا إن شاء الله تعالى بيانا وبسطا في الكلام على أصول التفسير فهذا أصل من أصوله بل هو أهم أصوله .
الوجه الثالث:أن طالقا وحائضا وطامثا إنما حذفت تاؤه لعدم الحاجة إليها فإن التاء إنما دخلت للفرق بين المذكر والمؤنث في محل اللبس ، فإذا كانت الصفة خاصة بالمؤنث فلا لبس ، فلا حاجة إلى التاء هذا هو الصواب في ذلك وهو المذهب الكوفي .
فإن قلت:هذا خلاف مذهب سيبويه .
قلت:فكان ماذا ؟ وهل يرتضي محصل برد موجب الدليل الصحيح لكونه خلاف قول عالم معين ؟ هذه طريقة الخفافيش ، فأما أهل البصائر فإنهم لا يردون الدليل وموجبه بقول معين أبدا ، وقليل ما هم ، ولا ريب أن أبا بشر - رحمة الله - ضرب في هذا العلم بالقدح المعلى وأحرز من قصبات سبقه واستولى من أمده على ما لم يستول عليه غيره فهو المصلى في هذا المضمار ، ولكن لا يوجب ذلك أن يعتقد أنه أحاط بجميع كلام العرب ، وإن لا حق إلا ما قاله ، وكم لسيبويه من نص قد خالفه جمهور أصحابه فيه والمبرزون منهم ؟ ولو ذهبنا نذكر ذلك لطال الكلام به .
ولا تنس قوله في باب الصفة المشبهة:مررت برجل حسن وجهه بإضافة حسن إلى الوجه والوجه إلى الضمير ومخالفة جميع البصريين والكوفيين في ذلك ، فسيبويه - رحمة الله ممن يؤخذ من قوله ويترك ، وأما أن نعتقد صحة قوله في كل شيء فكلا .
وسنفرد إن شاء الله كتابا للحكومة بين البصريين والكوفيين فيما اختلفوا فيه وبيان الراجح من ذلك وبالله التوفيق والتأييد .
فإن قلت:يكفي في رد ما اخترتموه في طامث وحائض وطالق من المذهب الكوفي قوله تعالى:{ يوم ترونها تذهل كل مرضعة} [ الحج:2] فهذا وصف يختص به الإناث وقد جاء بالتاء .
قلت:ليس في هذا ولله الحمد رد لهذا المذهب ولا إبطال له ، فإن دخول التاء هاهنا يتضمن فائدة لا تحصل بدونها فتعين الإتيان بها ، وهي أن المراد بالمرضعة فاعلة الرضاع ، فالمراد الفعل لا مجرد الوصف ، ولو أريد الوصف المجرد بكونها من أهل الإرضاع لقيل:مرضع كحائض وطامث ألا ترى إلى قوله صلى الله عليه وسلم:«لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار » فإن المراد به الموصوفة بكونها من أهل الحيض لا من يجري دمها ، فالحائض والمرضع وصف عام يقال على من لها ذلك وصفا وإن لم يكن قائما بها ، ويقال على من قام بها بالفعل فأدخلت التاء هاهنا إيذانا بأن المراد من تفعل الرضاع فإنها تذهل عما ترضعه لشدة هول زلزلة الساعة ، وأكد هذا المعنى بقوله:{ عما أرضعت} فعلم أن المراد المرضعة التي ترضع بالفعل لا بالقوة والتهيؤ ، وترجيح هذا المذهب له موضع غير هذا .
فصل
( المسلك الخامس ):أن هذا من باب اكتساب المضاف حكم المضاف إليه إذا كان صالحا للحذف والاستغناء عنه بالثاني ، كقول الشاعر:
لما أتى خبر الزبير تواضعت *** سور المدينة والجبال الخشع
وقال الآخر:
مشين كما اهتزت رماح تسفهت *** أعاليها مر الرياح النواسم
وقال الآخر:
بغي النفوس معيدة نعماءها *** نقما ، وإن عمهت وطال غرورها
فأنت في الأول «السور » المضاف إلى المدينة ، وفي الثاني «المر » المضاف إلى الرياح وفي الثالث «البغي » المضاف إلى النفوس لتأنيث المضاف إليه مع أن التذكير أصل والتأنيث فرع فحمل الأصل على الفرع فلأن يجوز تذكير المؤنث لإضافته إلى غير مؤنث أولى ؛ لأنه حمل للفرع على الأصل ، ومن الأول أيضا قول الشاعر:
وتشرق بالأمر الذي قد أذعته *** كما شرقت صدر القناة من الدم
فأنث الصدر لإضافته إلى القناة ، وأنشدني بعض أصحابنا لأبي محمد بن حزم في هذا المعنى بإسناد لا يحضرني:
تجنب صديقا مثل ما واحذر الذي *** تراه كعمرو بين عرب وأعجم
فإن صديق السوء يردي وشاهدي *** «كما شرقت صدر القناة من الدم »
ومنه قول النابغة:
حتى استغثن بأهل الملح ضاحية *** يركضن قد قلقت عقد الأطانيب
ومنه قول لبيد:
فمضى وقدمها ، وكانت عادة *** منه إذا هي عردت أقدامها
وهذا المسلك - وإن كان قد ارتضاه غير واحد من الفضلاء - فليس بقوي ؛ لأنه إنما يعرف مجيئه في الشعر ، ولا يعرف في الكلام الفصيح منه إلا النادر ، كقولهم:ذهبت بعض أصابعه ، والذي قواه هاهنا شدة اتصال المضاف بالمضاف إليه ، وكونه جزؤه حقيقة ، فكأنه قال:ذهبت إصبع وإصبعان من أصابعه ، وحمل القرآن على المكثور الذي خلافه أفصح منه ، ليس بسهل .
فصل
( المسلك السادس ):إن هذا من باب الاستغناء بأحد المذكورين عن الآخر ، لكونه تبعا له ومعنى من معانيه ، فإذا ذكر أغنى عن ذكره ؛ لأنه يفهم منه .
ومنه في أحد الوجوه قوله تعالى:{ إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين} [ الشعراء:4] فاستغنى عن خبر الأعناق بالخبر عن أصحابها .
ومنه في أحد الوجوه قوله تعالى:{ والله ورسوله أحق أن يرضوه} [ التوبة:62] .
المعنى:والله أحق أن يرضوه ورسوله صلى الله عليه وسلم كذلك ، فاستغنى بإعادة الضمير إلى الله إذ إرضاؤه هو إرضاء رسوله فلم يحتج أن يقول:يرضوهما .
فعلى هذا يكون الأصل في الآية إن الله قريب من المحسنين ، وإن رحمة الله قريبة من المحسنين ، فاستغنى بخبر المحذوف عن خبر الموجود وسوغ ذلك ظهور المعنى .
وهذا المسلك مسلك حسن إذا كسي تعبيرا أحسن من هذا ، وهو مسلك لطيف المنزع دقيق على الإفهام ، وهو من أسرار القرآن .
والذي ينبغي أن يعبر عنه به:أن الرحمة صفة من صفات الرب تبارك وتعالى والصفة قائمة بالموصوف لا تفارقه ؛ لأن الصفة لا تفارق موصوفها ، فإذا كانت قريبة من المحسنين فالموصوف تبارك وتعالى أولى بالقرب منه ، بل قرب رحمته تبع لقربه هو تبارك وتعالى من المحسنين .
وقد تقدم في أول الآية أن الله تعالى قريب من أهل الإحسان بإثابته ومن أهل سؤاله بإجابته ، وذكرنا شواهد ذلك ، وأن الإحسان يقتضي قرب الرب من عبده كما أن العبد قرب من ربه بالإحسان ، وأن من تقرب منه شبرا تقرب الله منه ذراعا ومن تقرب منه ذراعا تقرب منه باعا ، فالرب تبارك وتعالى قريب من المحسنين ورحمته قريبة منهم ، وقربة يستلزم قرب رحمته ، ففي حذف التاء هاهنا تنبيه على هذه الفائدة العظيمة الجليلة ، وأن الله تعالى قريب من المحسنين وذلك يستلزم القربين ( قربة وقرب رحمته ) . ولو قال:«إن رحمة الله قريبة من المحسنين » لم يدل على قربه تعالى منهم ؛ لأن قربة تعالى أخص من قرب رحمته ، والأعم لا يستلزم الأخص بخلاف قربة ، فإنه لما كان أخص استلزم الأعم وهو قرب رحمته فلا تستهن بهذا المسلك . فإن له شأنا . وهو متضمن لسر بديع من أسرار الكتاب ، وما أظن صاحب هذا المسلك قصد هذا المعنى ، ولا ألم به .
وإنما أراد أن الإخبار عن قرب الله تعالى من المحسنين كاف عن الإخبار عن قرب رحمته منهم .
فهو ( مسلك سابع ):في الآية وهو المختار ، وهو من أليق ما قيل فيها .
وإن شئت قلت:قربة تبارك وتعالى من المحسنين وقرب رحمته منهم متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر فإذا كانت رحمته قريبة منهم ، فهو أيضا قريب منهم وإذا كان المعنيان متلازمين صح إرادة كل واحد منهما ، فكان في بيان قربه سبحانه من المحسنين من التحريض على الإحسان واستدعائه من النفوس وترغيبها فيه غاية حظ وأشرفه وأجله على الإطلاق ، وهو أفضل إعطاء أعطيه العبد وهو قربة تبارك وتعالى من عبده الذي هو غاية الأماني ، ونهاية الآمال ، وقرة العيون ، وحياة القلوب ، وسعادة العبد كلها ، فكان في العدول عن قريب إلى قريب من استدعاء الإحسان وترغيب النفوس فيه ما لا يتخلف بعده إلا من غلبت عليه شقاوته ولا قوة إلا بالله .
فصل
( المسلك الثامن ) إن «الرحمة » مصدر ، والمصادر كما لا تثنى ولا تجمع فحقها أن لا تؤنث وهذا المسلك ضعيف جدا ، فإن الله سبحانه حيث ذكر الرحمة أجرى عليها التأنيث كقوله:{ ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون} [ الأعراف:156] .
وقوله فيما حكى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إن رحمتي غلبت أو سبقت غضبي » ولو كان حذف التاء من الرحمة لكونها مصدرا والمصادر لا حظ للتأنيث فيها لم يعد عليها الضمير إلا مذكرا ، وكذلك ما كان من المصادر بالتاء كالقدرة والإرادة والحكمة والهمة ونظائرها وفي بطلان ذلك دليل على بطلان هذا المسلك .
فصل
( المسلك التاسع ):أن القريب يراد به شيئان:أحدهما:النسب والقرابة ، فهذا بالتاء تقول:«فلانة قريبة لي » ، والثاني:قرب المكان ، وهذا بلا تاء تقول:«جلست فلانة قريبا مني » ، ولا تقول قريبة مني ، وهذا مسلك الفراء رحمة الله وجماعة وهو أيضا ضعيف فإن هذا إنما هو إذا كان لفظ «القريب » ظرفا ، فإنه يذكر كما قال ، تقول:«جلست المرأة مني قريبا » فأما إذا كان اسما محضا فلا .
فصل
( المسلك العاشر ) أن تأنيث «الرحمة » لما كان غير حقيقي ساغ فيه حذف التاء ، كما تقول «طلع الشمس ، وطلعت » ؛ وهذا المسلك أيضا فاسد فإن هذا إنما يكون إذا أسند الفعل إلى ظاهر المؤنث فإما إذا أسند إلى ضميره فلا بد من التاء ، كقولك:«الشمس طلعت » وتقول:«الشمس طالعة » ولا تقول «طالع » ؛ لأن في الصفة ضميرها فهي بمعنى الفعل في ذلك سواء .
فصل
( المسلك الحادي عشر ):أن «قريبا » مصدر لا وصف ، وهو بمنزلة النقيض فجرد من التاء ؛ لأنك إذا أخبرت عن المؤنث بالمصدر لم تلحقه التاء ، ولهذا تقول:امرأة عدل ، ولا تقول:عدلة ، وامرأة صوم وصلاة وصدق وبر ونظائره .
وهذا المسلك من أفسد ما قيل في «قريب » فإنه لا يعرف استعماله مصدرا أبدا ، وإنما هو وصف ، والمصدر هو «القرب » لا «قريب » .
فصل
( المسلك الثاني عشر ):أن فعيلا وفعولا مطلقا يستوي فيهما المذكر والمؤنث حقيقيا كان أو غير حقيقي ، كما قال امرؤ القيس:
برهرهه رودة رخصة *** كخرعوبة البانة المنقطر
قطيع القيام ، فتور الكلام *** تفتر عن ذي عزوب خصر
وقال أيضا:
له الويل إن أمسى ولا أم هاشم *** قريب ولا البسباسة ابنة يشكرا
وقال جرير:
أتنفعك الحياة وأم عمرو *** قريب لا تزور ولا تزار ؟
وقال جرير أيضا:
كأن لم نحارب يابثين لو أنها *** تكشف غماها وأنت صديق
وقال أيضا:
دعون الهون ثم ارتهن قلوبنا *** بأسهم أعداء ، وهن صديق
قالوا:وشواهد ذلك كثيرة .
وفي هذا المسلك غنية عن تلك التعسفات والتأويلات .
وهذا المسلك ضعيف أيضا . ومما رده أبو عبد الله بن مالك ، فقال:هذا القول ضعيف ؛ لأن قائله إما أن يريد أن فعيلا في هذا الموضع وغيره يستحق ما يستحقه فعول من الجري على المذكر والمؤنث بلفظ واحد ، وإما أن يريد أن فعيلا في هذا الموضع خاصة محمول على فعول .
فالأول مردود لإجماع أهل العربية على التزام التاء في ظريفة وشريفة وأشباههما
وزنا ودلالة ولذلك احتاج علماؤهم أن يقولوا في قوله تعالى:{ وما كانت أمك بغيا} [ مريم:28] وقوله:{ ولم أك بغيا} [ مريم:20] أن الأصل هو يغوى على فعول فلذلك لم تلحقه التاء ، ثم أعل بإبدال الواو ياء والضمة كسرة فصار لفظه كلفظ فعيل ، ولو كان فعيلا أصلا للحقته التاء ، فقيل لم أك بغية والثاني أيضا مردود لأن لفعيل على فعول من المزايا ما لا يليق به أن يكون تبعا له ، بل العكس أولى أن يكون فعولا تبعا لفعيل ، ولأنه يتضمن حمل فعيل على فعول ، وهما مختلفان لفظا ومعنى أما اللفظ فظاهر ، وأما المعنى فلأن قريبا لا مبالغة فيه ؛ لأنه يوصف به كل ذي قرب وإن قل ، وفعول لا بد فيه من المبالغة .
وأيضا:فإن الدال على المبالغة لا بد أن يكون له بنية لا مبالغة فيها ، ثم يقصد به المبالغة ، فتتغير بنيته كضارب وضروب ، وعالم وعليم . وقريب ليس كذلك فلا مبالغة فيه .
وأما بيت امرؤ القيس فلا حجة فيه لوجوه:
أحدها:أنه نادر فلا حكم له فلا كثرت صوره ولا جاء على الأصل كاستجوذ واستوثق البعير ، وأغيمت السماء ، وأغور ، وأحول وما كان كذلك فلا حكم له .
الثاني:أن يكون قد أراد قطيعة القيام ، ثم حذف التاء للإضافة ، فإنها تجوز بحذفها عند الفراء وغيره ، وعليه حمل قوله تعالى:{ وإقام الصلاة} أي إقامتها ؛ لأن المعروف في ذلك إنما هو لفظ الإقامة ، ولا يقال «إقام » دون إضافة كما لا يقال «إراد » في إرادة ولا «إقال » في إقالة ؛ لأنهم جعلوا هذه التاء عوضا عن ألف إفعال أو عينه ، لأن أصل إقامة أقوام فنقلت حركة العين إلى الفاء فانقلبت ألفا فالتقت ألفان فحذفت إحداهما فجاءوا بالتاء عوضا ، فلزمت إلا مع الإضافة ، فإن حذفها جائز عند قوم قياسا ، وعند آخرين سماعا . .
ومثلها في اللزوم:تاء عدة وزنة . وأصلهما وعد ووزن ، فحذفت الواو ، وجعلت التاء عوضا منها فلزمت ، وقد تحذف للإضافة كقول الشاعر:
إن الخليط أجدوا البين وانجردوا *** وأخلفوك عد الأمر الذي وعدوا
أي أخلفوك عدة الأمر ، فحذف التاء
وعلى هذه اللغة قرأ بعض القراء{ ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة} [ التوبة:46] بالهاء أي عدته . فحذف التاء .
الثالث:أن يكون فعيل في قوله «قطيع القيام » بمعنى مفعول ؛ لأن صاحب «المحكم:حكى أنه قال ، مبينا على قطعه وأقطعه إذا بكته ، وأقطعه إذا بكته ، وقطع هو فهو قطيع القول .
فقطيع على هذا بمعنى مقطوع أي مبكت ، فحذف التاء على هذا التوجيه ليس مخالفا للقياس .
وإن جعل قطيعا مبنيا على قطع ، كسريع من سرع:فحقه على ذلك أن يلحقه التاء عند جريه على المؤنث إلا أنه شبه بفعيل الذي بمعنى مفعول ، فأجرى مجراه .
فهذا تمام اثنى عشر مسلكا في هذه الآية ، أصحها المسلك المركب من السادس والسابع ، وباقيها ضعيف وواه ومحتمل ، والمبتدئ والمقلد لا يدرك هذه الدقائق ، والفاضل المنصف لا يخفى عليه قويها من ضعيفها ، وليكن هذا آخر الكلام على الآية ، والله أعلم .