وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ( 57 ) وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ ( 58 )
بين الله تعالى آياته في الكون كيف خلق السماوات والأرض في ستة ايام ، وبين – سبحانه وتعالى – وجوب الضراعة من بنى الإنسان كما يسبح له كل ما في الوجود ، وإن كنا لا نفقه تسبيحهم ، ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ، وفي هاتين الآيتين يعدد – سبحانه – على الإنسان ما سخر له في الأرض ، فقال عز من قائل:{ وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت} ( الواو ) هنا عاطفة على قوله تعالى:{ يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا} ، أي أنه وقد أنعم بنعمتي الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات أنعم بالماء يسقي الأرض فتنبت نباتا طيبا ، وهو – سبحانه وتعالى – الذي يوزعه في الأرض ، على حسب حاجة كل بلد إليه ، وتوزيعه عادل صالح يحيي الأرض بعد مواتها .
{ وهو} الضمير يعود على الله تعالى جل جلاله ، وتعالى كماله ، يثيرها سبحانه ، ثم يرسلها بقدرته{ بشرا بين يدي رحمته} ، أي أمام رحمته مبشرة الناس بأن السماء ستمطر ، والمطر غيث يغيثهم ، يشربون منه ، وينبتون به زرعهم ويسقون به أنعامهم ، وغرسهم ويجنون به ثمارهم ، فهي بشرا لهم ، مبشرة لهم برحمة من الله ويكون المطر . وبشرا:جمع بشير ، كقلب جمع قليب ، وأصلها ( بشرا ) ، وسكنت للتخفيف ، هناك قراءة بالنون ، لا بالباء ، وبضم الشين ، أي ( نشرا ) ( 1 ){[1117]} ، وهي جمع ناشر ، كما أن شهدا جمع شاهد ، والمعنى أن الرياح تنتشر ، مبشرة بأن السحاب سيمطر مطرا يكون غيثا ، وحول هاتين القراءتين قراءات أخرى يبلغ عددها سبعا ، والفرق بينها في الكلمة ، ولا يؤثر اختلافها في مضمونها .
وهي تكون منتشرة بالبشرى بالماء الذي يحيي الأنفس ، ويحيي موات الأرض .
ويقول سبحانه في تحقيق البشارة:{ حتى إذا أقلت سحابا ثقالا} حتى ثارت هذه الرياح فبخرت البحار فتكون منه الماء ، وحملت السحاب ، وتكاثفت الرياح .
و{ أقلت} أي حملت ، ولا تقال كلمة{ أقلت} بمعنى ( حملت ) إلا إذا كان سحابا ثقالا أي ممتلئة ماء .
وسحاب اسم جنس جمعي يفرق بينه وبين مفرده بالتاء أو بياء النسب كتمر ، وتمرة ، وبقر وبقرة ، وعرب وعربي ، وروم ورومي . والثقال جمع ثقيل .
امتلأت السحاب بالماء ، وحملتها الرياح ، ولم تنزل حيث كانت ، بل إن الله تعالى المنعم الموزع لرحمته لا ينزلها إلا في مواطن الحاجة إليها على ما مضت به حكمته ، وعلى مقتضى علمه – سبحانه وتعالى – فهو الحي القيوم المدبر للوجود ، ولأهل الأرض{ سقناه لبلد ميت} أي سقنا السحاب ، فالضمير يعود إليها ، وهي تذكر وتؤنث ، فأومأ – سبحانه وتعالى – إليها مذكرا . ساق:تتعدى ب ( اللام ) وتتعدى ب ( إلى ) ، ومعنى سوقها دفعها ، وتعديتها باللام هنا لمعنى الاختصاص بقسمة الله تعالى العادلة ، فالمعنى سقناه إلى هذا البلد ، ليكون مختصا بها حتى يحيي مواتها ، فإذا ماتت أرض أخرى اختصصناها بما يحييها من غير تثريب ( 1 ){[1118]} فسبحان الرزاق الحكيم .
والبلد الميت ، هو الأرض الميتة التي لا ماء فيها ، ولا ينتفع بها في زرع أو غرس ، ولا يوجد ما يأكل منه حيوان أو يحيا به إنسان ، فيحيي الماء بعد مواتها بإذن الله العليم الحكيم الرزاق ذي القوة المتين .
وقال تعالى:{ فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات} .
إن السحاب الذي ساقه الله تعالى إلى البلد الميت يلقي حمولته من الماء بإذن الله وبأمره وبنعمته ؛ ولذا قال:{ فأنزلنا به الماء} والضمير في ( به ) يعود على البلد الميت ، أي فأخرجنا بهذا البلد الميت ، الذي لا ينبت زرعا{ من كل الثمرات} من:هنا بيانية ، أي أخرجنا كل الثمرات بهذا البلد الميت ، أخرجنا حبا وزيتونا ورمانا ، متشابها وغير متشابه ، وأخرجنا نخلا وعنبا ، وأخرجنا كل شيء ، وجعلنا منه كلأ تأكل منه الإبل والبقر والغنم ، وكل ذي كبد رطبة ينتفع بها ، ويختبر بها .
فكان من هذه الأرض الموات تلك الحياة ، وذلك الخضر من كل شيء ، وإن ذلك يقرب لكم إعادة الأموات إلى الحياة ؛ ولذا قال تعالى خاتما الآية الكريمة:{ كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون} .
أي كهذا الذي رأيتم من إخراج ثمرات كل شيء نباتا حيا ، وغرسا مثمرا ، وحبا متراكبا ، وكلأ طعاما للنعم كهذا الذي شاهدتم ، وتشاهدون كل يوم يخرج الله تعالى الأموات من قبورهم أحياء ، فالتذكير بقدرة الله تعالى على البعث ثابت في كل ما يشاهدون ، يخرج الحي من الميت ، ويخرج الميت من الحي .
فشبه الله تعالى إخراج الأموات من قبورهم وبعثهم ، وإنشارهم بعد موتهم بإخراج النبات من الأرض الميتة أحياها . ولقد جاء في بعض الأخبار أن الله عند إحياء الأموات ينزل المطر ، أربعين يوما فيخرج الأموات أحياء كالنبات ( 1 ){[1119]} .
ولقد قال:{ لعلكم تذكرون} ، أي رجاء أن تتذكروا ، وأنتم ترون ذلك في الأقوام ، والبلدان . إنه عليم حكيم .