{ وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ 57 وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُون 58}
بعد أن بين الله تعالى جده أن رحمته العامة قريب من المحسنين في عبادتهم وفي سائر أعمالهم ذكرنا بما نغفل عنه كثيرا من التفكر والتأمل في أظهر أنواع هذه الرحمة وهو إرسال الرياح وما فيها من منافع الخلق ، وإنزال المطر الذي هو مصدر الرزق ، وسبب حياة كل حي في هذه الأرض ، وما فيه من الدلالة على قدرته تعالى على البعث ، وما يستحقه عليه من الحمد والشكر فقال:
{ وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِه} الجملة معطوفة على ما بين به تعالى تدبيره لأمر العالم في إثر إثباته لخلق السماوات والأرض ، واستوائه على العرش ، في قوله:{ يغشي الليل النهار} إلخ وما بينهما من قبيل الاعتراض المقصود بالذات ، من التذكير بهذه الآيات ، وهو إخلاص العبادة له وحده بالفعل والترك المعبر عنه بالنهي عن الإفساد في الأرض .وهو شامل لجميع ما حرمه الإسلام .
الريح الهواء المتحرك ، وهي مؤنثة في الأثر وقد تذكر بمعنى الهواء ، وأصلها روح بالواو وقلبت الواو ياء لكسر ما قبلها ( كالميزان أصلها موازن لأنها من الوزن ) وجمعها رياح وأرواح وكذا أرياح وهو شاذ .والهواء من أعظم نعم الله تعالى على الأحياء ، إذ وجوده شرط لحياة كل نبات وحيوان ، فلو رفعه الله تعالى من الأرض لمات كل حيوان وإنسان في طرفة عين ولا تتم منافعه إلا بحركته التي يكون بها ريا ، ومن أهمها فعله في توليد المطر الذي هو موضوع الآية .
قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي ( الريح ) مفردة والباقون الرياح بالجمع ، ورسمت في المصحف الإمام بغير ألف لتحتمل القراءتين ، ولذلك أمثال ، والرياح عند العرب أربع بحسب مهابها من الجهات الأربع:الشمال والجنوب وسميتا باسم جهة مهبهما ، والثالثة الصبا والقبول وهي الشرقية ، والرابعة الدبور وهي الغربية .وأهل الحجاز ينسبون ريح الصبا إلى نجد ، والجنوب إلى اليمن ، والشمال إلى الشام ، والريح التي تنحرف عن هذه المهاب الأصلية فتكون بين ثنتين منها تسمى النكباء مؤنث الأنكب وهي من قولهم نكب عن الشيء أو عن الطريق نكبا ونكوبا إذا انحرف وتحول عنه ، ومنه{ وإن الذين لا يؤمنون بالآخرة عن الصراط لناكبون} ( المؤمنون 74 ) وإذا هبت الرياح من مهاب ونواح مختلفة سموها المتناوحة .ومن المأثور عن العرب أن الرياح تشترك في إثارة السحاب الممطر فيقولون:إن الصبا تثيره والشمال تجمعه ، والجنوب تدره والدبور تفرقه قال ابن دريد في وصف سحاب ممطر دعا لبلاده به:
جون أعارته الجنوب جانبا *** منها وواصت صوبه يد الصبا
ثم قال:
إذا خبت بروقه عنت له *** ريح الصبا تثير منه ما خبا
وإن ونت رعوده حدا بها *** حادي الجنوب فحدت كما حدا
ويختلف تأثير الرياح في الأقطار باختلاف مواقعها منها ، فالصبا والجنوب لا يأتيان بالمطر في القطر المصري لأن مهبهما الصحارى التي لا ماء فيها ولا نبات ، وإنما تأتي به الشمال والدبور لأن مهبهما من جهة البحر المتوسط فيحملان بخار الماء منه ومن الأراضي الزراعية ، وأكثرها في الوجه البحري ، ويقرب منه في ذلك ديار الشام فإن أكثر ما يثير سحاب المطر فيها الدبور ( الغربية ) فإذا هبت الصبا ( الشرقية ) وغلبت انقشع السحاب وخفت رطوبة الجو ، ولعل حكمة القراءتين أن الريح الواحدة تبشر بالمطر في الأقطار كما تبشر به ريحان في قطر آخر ، أو أن الرياح بأنواعها تبشر بالمطر في الأقطار المختلفة .على أن الريح براد بها عند إطلاقها الجنس .
وقال الراغب كغيره إن عامة المواضع التي ذكر الله تعالى فيها إرسال الريح بلفظ الواحد فعبارة عن العذاب وكل موضع ذكر بلفظ الجمع فعبارة عن الرحمة ، وذكر بعض الشواهد ، ومن استقرأ الآيات في ذلك رأى أن الجمع لم يذكر إلا في بيان آيات الله أو رحمته ولاسيما رحمة المطر ، وأما الريح المفردة فذكرت في عذاب قوم عاد في عدة سور ، وفي ضرب المثل للعذاب كقوله تعالى:{ مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته} ( آل عمران 117 ) .وقوله:{ أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شيء} ( إبراهيم 21 ) وقوله:{ أو تهوي به الريح في مكان سحيق} ( الحج 29 ) ونحوه التهديد في قوله:{ أو يرسل عليكم قاصفا من الريح} ( الإسراء 69 ) الآية ولكنها وردت في الأمرين بالتقابل في قوله تعالى:{ هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف} ( يونس 22 ) الآية ، ووردت في مقام الرحمة والمنة بتسخيرها لسليمان في سورة الأنبياء وسبأ وص .
وقوله تعالى:{ بشرا} قرأه عاصم بضم الموحدة وسكون الشين مخفف بشر بضمتين وهو جمع بشير كنذر جمع نذير ، وفي رواية عنه بضمتين على الأصل وقرأ ابن عامر بشرا بالتخفيف حيث وقع من القرآن وحمزة والكسائي نشرا بفتح النون حيث وقع على أنه مصدر في موقع الحال بمعنى ناشرات أو مفعول مطلق فإن الإرسال والنشر متقاربان .
{ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالا} قال في الأساس:وأقله واستقل به رفعه .وفي المصباح:وكل شيء حملته فقد أقللته ، وأقللته عن الأرض رفعته أيضا قيل إنه مأخوذ من القلة بالكسر لقولهم أقله واستقله أي وجده قليلا ، والأظهر أنه من:أقل القلة وهي بالضم الجرة فإنما سميت قلة لأن الرجل يقلها أي يحملها أو يرفعها بيده عن الأرض ، والسحاب والغيم وهو اسم جنس يفرق بينه وبين واحده وبالتاء فيقال سحابة وهو يذكر ويؤنث ويفرد وصفه ويجمع ، والثقال منه المتشبعة ببخار الماء والمعنى أن الرب المدبر لأمور الخلق هو الذي يرسل الرياح بين يدي رحمته لعباده بالمطر أي قدامها مبشرات بها وناشرات لأسبابها حتى إذا حملت سحابا ثقالا ورفعته في الهواء .
{ سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّت} أي سيرناه وسقناه بها إلى بلد ميت أي أرض لا نبات فيها فإنما حياة الأرض بالنبات الحي فيها"فاللام بمعنى إلى "كما في آية فاطر{ والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به الأرض بعد موتها كذلك النشور} ( فاطر 9 ) قال في المصباح كغيره:ويطلق البلد والبلدة على كل موضع من الأرض عامرا كان أو خلاء ، وفي التنزيل ( إلى بلد ميت ) أي إلى أرض ليس فيها نبات ولا مرعى فنخرج ذلك بالمطر فترعاه أنعامهم فأطلق الموت على عدم النبات والمرعى وأطلق الحياة على وجودهما اه أقول:وغلب عرف الناس بعد ذلك في تخصيص البلد بالمكان الآهل بالسكان في المباني .
{ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاء} أي فأنزلنا بالسحاب الماء ، فالباء للآلة أو السببية ، أو بالبلد فتكون الباء للظرفية أي فيه ، أو بالرياح ، والمختار هنا كون الباء للسببية فإن الريح هي التي تثير السحاب من سطح البحر وغيره من المياه أو الأرض الرطبة وترفعه في الجو وهي سبب تحول البخار إلى ماء ما بتبريدها له فبذلك يصير البخار ماء أثقل من الهواء فيسقط من خلاله إلى الأرض بحسب سنة الله في جاذبية الثقل .كما قال تعالى في سورة الروم:{ الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا فيبسطه في السماء كيف يشاء ويجعله كسفا فترى الودق يخرج من خلاله} ( الروم 46 ) وفي سورة النور{ ألم تر أن الله يزجي سحابا ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاما فترى الودق يخرج من خلاله} ( النور:42 ) الودق المطر أي يخرج من خلال السحاب وأثنائه ، وكل ما ورد في القرآن من إنزال الماء من السماء فمراد بالسماء فيه السحاب ، لأن هذا التفصيل صريح في ذلك والسماء اسم لكل ما علا الإنسان ويفسر بالقرائن ، ومن الخطأ أن يظن أن الماء ينزل من السماء المعنوية التي هي مسكن الملائكة على السحاب الذي هو كالغربال لها وإن قال به بعض المؤلفين ، فإن القرآن يصرح بخلافه ، وما صرح به القرآن هو الذي أثبته العلم والاختبار ، فإن سكان الجبال الشامخة يبلغون في توقلها السحاب الممطر ثم يتجاوزونه إلى ما فوقه فيكون دونهم ، والعرب تسمي السحاب سماء تسمية حقيقية ثم أطلقت لفظ السماء على المطر نفسه ، فكانت تقول جاء مكان كذا في إثر سماء وقال الشاعر:
إذا نزل السماء بأرض قوم *** رعيناه وإن كانوا غضابا{[1184]}
وأما قوله تعالى في تتمة آية سورة النور التي ذكرنا أولها آنفا{ وينزل من السماء من جبال فيها من برد فيصيب به من يشاء ويصرفه عمن يشاء يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار} ( النور 43 ) فلا مانع من جعل السماء فيها عين السحاب ولعل الأظهر أن يراد بها جهة العلو التي يكون فيها السحاب كقوله:{ فيبسطه في السماء كيف يشاء} ( الروم 48 ) وقوله:{ من جبال} بدل مما قبله .والمراد بالجبال قطع السحاب التي تشبه الجبال شبها تاما في عظمها وارتفاعها وشناخيبها وقللها ، وقلما يوجد في الخلق تشابه كالتشابه بين السحاب والجبال .والمعنى وينزل من السماء من سحب فيها كالجبال بردا عظيم الشأن في شكله وقوته وتأثيره فيمن يصيبه ، و( من ) فيه صلة أو للتبعيض أو للتنويع .وما روي مخالفا لهذا فمن إسرائيليات كعب الأحبار وأمثاله كما نبينه في محله إن شاء الله تعالى .
{ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَات} عطف كلا من إنزال الماء على سوق السحاب ومن إخراج النبات على إنزال الماء بالفاء الدالة على تعقيب ، وهو يتفاوت بتفاوت الأشياء فإنزال الماء يعقب سوق السحاب الثقال وجعله كسفا أو ركاما بدقائق معدودة قلما يتجاوزها إلى الساعات ، وسبب السرعة فيه شدة الريح ، ويقابله سبب البطء وهو ضعفها .وأما إخراج النبات بسبب هذا الماء فأمد التعقيب فيه أوسع فإنه يكون بعد أيام تختلف قلة وكثرة باختلاف الأقطار في الحرارة والبرودة .ومن التعقيب ما يكون في أشهر أو سنين فمن الأول قولهم:تزوج فولد له فهو يصدق بمن يولد له بعد مضي مدة الحمل الغالبة وهي تسعة أشهر بالتعقيب ، ولعله لا ينافي التعقيب فيه زيادة شهر أو شهرين أو ثلاثة .
والثمرات جمع ثمرة وهي واحدة الثمر ( بتحريك كل منهما ) والثمر يجمع على ثمار كجبل وجبال وجمع الثمار ثمر ككتاب وكتب وهو يجمع على أثمار كعنق وأعناق قال في المصباح:وثمر العوسج وثمر الدوم وهو المقل كما يقال ثم النخل وثمر العنب اه وهذا أصح وأوضح من قول الراغب:الثمر اسم لكل ما يتطعم من أعمال الشجر .والمراد بكل الثمرات جميع أنواعها على اختلاف طعومها وألوانها وروائحها .وليس المراد أن كل بلد ميت ينزل الله فيه الماء يخرج به جميع الثمرات التي خلقها في الأرض ، فقد علم من الآية التالية ومن سنن الله تعالى في الأرض ومن المشاهدة أن البلاد تختلف أرضها فيما تخرجه وفي الإخراج فالاستغراق لا يصح إلا بالنسبة إلى أرض الله كلها .ويكفي في كل أرض تخرج أنواعا مختلفة تدل على قدرة الله تعالى وعلمه وفضله وإحسانه .قال تعالى:{ وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ، ونفضل بعضها على بعض في الأكل .إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون} ( الرعد 4 ) .
وقفى على التذكير بهذه الآيات بالتعجب من إنكارهم للبعث كما قال هنا:
{ كذلك نُخْرِجُ الْموْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون} أي مثل هذا الإخراج لأنواع النبات من الأرض الميتة بإحيائها بالماء نخرج الموتى من البشر وغيرهم .فالقادر على هذا قادر على ذاك .لعلكم تذكرون هذا الشبه فيزول استبعادكم للبعث الذي عبرتم عنه بقولكم:من يحيى العظام وهي رميم ؟ أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون ؟ أئنا لمدينون ؟ ذلك رجع بعيد .وأمثال هذه الأقوال الدالة على أن إنكارهم لا منشأ له إلا ما تحكمون به بادي الرأي من امتناع خروج الحي من الميت .ذاهلين عن خروج النبات الحي من الأرض الميتة .وعن عدم الفرق بين حياة النبات وحياة الحيوان ، في خضوعهما لقدرة الرب الخالق لكل شيء فوجه الشبه في الآية هو إخراج الحي من الميت ، والحي في عرفهم يعرف بالنماء والتغذي كالنبات وبالحس والتحرك بالإرادة كالحيوان .
فإن قيل إن العلم قد أثبت أن الحي لا يولد إلا من حي سواء في ذلك النبات والحيوان بأنواعه من أدنى الحشرات إلا أعلاها ، فالنبات الذي يخرج من الأرض القفراء بعد سقيها بالماء لا بد أن يكون له بذور أو جذور فيها حياة كامنة لا تظهر من مكمنها إلا بالماء كما أن البيوض التي يتولد منها الحيوان أدناها كالصئبان وبذور الديدان وأوسطها كبيض الطير والحيات وأعلاها كبيوض الأرحام كلها ذات حياة لا تنتج إلا بتلقيح ماء الذكور لها ؟
قلنا إن هذه الحياة لم تكن معروفة عند واضعي اللغة فهي اصطلاح جديد ، وأهل اللغة خوطبوا بعرفهم في الحياة والموت ففهموا بل إن قول هؤلاء العلماء لا ينفي حصة خروج النبات الحي من الأرض الميتة فلولا تغذي البذور والجذور بمواد الأرض الميتة بسبب الماء لما نبتت ، على أن بعض المتكلمين والمفسرين قالوا إن الإنسان يبلى كله إلا العجب ( بوزن فلس ) وهو أصل الذنب المسمى بالعصعص أو رأس العصعص فهو كنواة النخلة تبقى فيه الحياة كامنة بعد فناء الجسم ، وروي أن الله تعالى ينزل ماء من السماء فتمطر الأرض أربعين يوما فتنبت منه الأجساد كما ينبت الحب في الأرض ، فالقائلون ببقاء عجب الذنب يرون أن ذلك المطر يفعل فيه ما يفعل هذا المطر في الحب والنوى ، وليس لهذا القول أصل صحيح يعد حجة في مسألة اعتقادية معقولة المعنى كهذه .
ولكن ورد في الآحاد من حديث أبي هريرة عند الشيخين وغيرهما ما يثبت بقاء عجب الذنب قال صلى الله عليه وسلم"ما بين النفختين أربعون ...ويبلى كل شيء من الإنسان إلا عجب الذنب فيه يركب الخلق "هذا لفظ البخاري للمرفوع .وزاد مسلم بعد قوله أربعون"ثم ينزل الله من السماء ماء فينبتون كما ينبت البقل قال وليس من الإنسان شيء لا يبلى إلا عظما واحد وهو عجب الذنب ومنه يركب الخلق يوم القيامة "{[1185]} وهو غير صريح فيما تقدم ولكن جاء في تفسيري الثعلبي وابن عطية عن أبي هريرة أن بين النفختين أربعين عاما يرسل الله فيها على الموتى مطرا كمنّي الرجال من ماء تحت العرش يسمى ماء الحيوان فينبتون من قبورهم بذلك المطر كما ينبت الزرع من الماء ثم ينفخ فيهم الروح عند النفخة الثانية ، وهذا التفصيل لا يصح فيه شيء مرفوع عنه ولا عن غيره ويعارضه كون الأرض تصير بالنفخة الأولى كما يأتي قريبا هباء منبثا وهذا قطعي وهو يعارض المرفوع أيضا فإن لم يمكن الجمع بينهما كان ذلك مطعنا في صحة الحديث .
وقد اختلف العلماء في حديث الشيخين نفسه فأخذ به الجمهور على إطلاقه وإجماله وأول بعضهم كون عجب الذنب لا يبلى بطول بقائه لا أنه لا يفنى مطلقا .ذكره الحافظ في شرحه للحديث من الفتح .وفوض بعضهم معناه وسره إلى الله تعالى وخالف الإمام المزني صاحب الشافعي فقال بفنائه كما قال صاحب الجوهرة:
عجب الذئب كالروح لكن صححا *** اَلْمزنيُّ للبلى ورجَّحا
وإنما يقال لأهل العلم بالنبات وبالحياة النباتية والحيوانية ، إنكم تقولون بأن الأرض كانت كرة نارية ملتهبة .وأن الأحياء الأولى وجدت فيها بالتولد الذاتي الذي انقطع بعد ذلك بتسلسل الأحياء لأن طبيعة الأرض لم تبق مستعدة له كما كانت وهي قريبة العهد بالتكوين .وقد نطق القرآن الحكيم بأن الأرض تفنى بتفرق مادتها .ثم يعيدها الله كما بدأها .قال تعالى:{ إذا رجت الأرض رجا وبست الجبال بسا فكانت هباء منبثا} ( الواقعة 4- 6 ) فهذه الرجة هي التي سماها في سور أخرى بالقارعة والصاخة .والمعقول أن كوكبا يقرعها باصطدامه بها فتفتحت جبالها وتكون كالهباء المتفرق في الجو وهو ما يسمونه بالسديم ، وقال تعالى:{ كما بدأنا أول خلق نعيده} ( الأنبياء 103 ){ كما بدأكم تعودون} ( الأعراف 8 ) والأشبه أن تشبيه الإعادة بالبدء إنما هو بالإجمال دون التفصيل .فكما خلق الله جد الإنسان الأول خلقا ذاتيا مبتدأ ثم نفخ فيه الروح ، يخلق أجساد جميع أفراد الإنسان خلقا ذاتيا معادا ثم ينفخ فيها أرواحها التي كانت أناسي في الحياة الدنيا ، لا أنه يجعلها متسلسلة بالتوالد من ذكر وأنثى كالنشأة الأولى ، إذ كانت الأجساد كاللباس للأرواح أو السكن لها ، وإذا كان الناس قد بلغوا من علم الكيمياء أن يحللوا بعض المواد المركبة من عناصر كثيرة ثم يركبوها ، أفيعجز خالق العالم كله أو يستبعد على قدرته أن يعيد أجساد ألوف الألوف مرة واحدة ؟ وأي فرق عنده بين القليل والكثير ، وهو على كل شيء قدير ؟
على أنه قد ثبت عند الروحيين من علماء الكون في هذا العصر وما قبله أن الله تعالى قد أعطى الأرواح المجردة قدرة على التصرف في مادة الكون بالتحليل والتركيب .وإنها بذلك تركب لنفسها من هذه المادة جسما لطيفا أو كثيفا تحل فيه وهو ما يسميه علماؤنا بالتشكل في تفسير مجيء الملك جبريل النبي صلى الله عليه وسلم مرة بشكل أعرابي وأحيانا في صورة دحية الكلبي وتمثله للسيدة مريم بشرا سويا .وإذا كان الماديون لا يصدقون الروحانيين في هذا ، فهم لا يستطيعون أن يقولوا إنه محال في نفسه .وإنما قصارى إنكارهم أن قالوا إنه لم يثبت عندنا .وإذا كان ممكنا غير محال أن يكون مما وهب الخالق للمخلوق أفيكون من المحال أن يفعله الخالق عز وجل من غير أن يجعل للأرواح فيه عملا ؟
ليس للكفار شبهة قوية على أصل البعث:وكل ما كان يستبعده المتقدمون من أخبار عالم الغيب قد قربه ترقي العلوم الطبيعية إلى العقول والأفهام حتى قال بعض كبراء الغرب ليس في العالم شيء محال .ولكن للمتقدمين والمتأخرين شبهة على حشر الأجساد ترد على ظاهر قول جمهور المسلمين أن كل أحد يحشر بجسده الذي كان عليه في الدنيا أو عند الموت لكي يقع الجزاء بعده على البدن الذي اقترف الأعمال .
وتقرير هذا الإيراد أن هذه الأجساد مركبة من العناصر المؤلفة منها مادة الكون كله وهي مشتركة يعرض لها التحليل والتركيب فتدخل الطائفة منها في عدة أبدان على التعاقب ، فمن الإنسان والحيوان ما تأكله الحيتان أو الوحوش ، ومنها ما يحرق فيذهب بعض أجزائه في الهواء فيتصل كل بخاري أو غازي منها بجنسه كبخار الماء وعنصريه والكربون ، وينحل ما يدفن في الأرض فيها ثم يتغذى بكل منهما النبات الذي يأكل بعضه الناس والأنعام فيكون جزءا من أجسادها ويأكل الناس من لحوم الحيتان والأنعام التي تغذت من أجساد الناس بالذات أو بالواسطة ، فلا يخلص لشخص معين جسد خاص به ، بل ثبت أن الأجساد الحية تنحل وتندثر بالتدريج وكلما انحل بعضها بالتبخر وبموت بعض الدقائق الحية يحل محله غيره من الغذاء بنسبة منتظمة بحسب سنن الله الذي أحسن كل شيء خلقه ، فلا يمر بضع سنين على جسد إلا ويتم اندثاره وتجدده فكيف يمكن أن يقال إن كل إنسان وحيوان يحشر بجسده الذي كان في الدنيا ؟
وقد أجاب بعض العلماء عن هذا بأن للجسد أجزاء أصلية وأجزاء فضلية ، والذي يعاد بعينيه هو الأصلي دون الفضلة ، وجعل بعضهم الأصلي عبارة عن ذرات صغيرة كعجب الذنب الذي ورد أنه كحبة خردل بل جوز أن تكون هي التي ورد أن الله تعالى أودعها في صلب آدم أبي البشر بصورة الذر ، كما روي في تفسير قوله تعالى:{ وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم ؟ قالوا بلى} ( الأعراف 172 ) .الآية وسيأتي تحقيق معناها وما ورد فيها في تفسير هذه السورة وجوز شيخنا الشيخ حسين الجسر في الرسالة الحميدية أن يكون ذلك الذي مما لا يدركه الطرف لتناهي صغره كالأحياء المجهرية أي التي لا ترى إلا بالمنظار المسمى بالمجهر ( الميكروسكوب ) وقد بينا في غير هذا الموضع أن التزام القول بوجوب حشر الأجساد التي كانت لكل حي بأعيانها لأجل وقوع الجزاء عليها غير لازم لتحقيق العدل فجميع قضاة العالم المدني في هذا العصر يعتقدون أن أبدان البشر تتجدد في سنين قليلة ولا يوجد أحد منهم ولا من غيرهم من العقلاء يقول إن العقاب يسقط عن الجاني بانحلال أجزاء بدنه التي زاول بها الجناية وتبدل غيرها بها ، فما لم يكن عندنا نص صريح من القرآن أو الحديث المتواتر على أن بعث الأجساد بأعيانها ، فما نحن بملزمين قبول الإيراد وتكلف دفعه ، فإن حقيقة الإنسان لا تتغير بهذا التبدل فقد تبدلت أجسادنا مرارا ولم تتبدل بها حقيقتنا ولا مداركنا ، ولا تأثير الأعمال التي زاولناها قبل التبدل في أنفسنا ، بل لم يكن هذا التبدل إلا كتبدل الثياب كما بيناه من قبل ، وقد قال بعض أعلام المتكلمين بمثل هذا ولم تكن المسألة الأخيرة معلومة في عصرهم .قال السعد التفتازاني في شرح المقاصد وهو أشهر كتب الكلام في التحقيق بعد بيانه لما قاله الغزالي في إثبات كون الحشر والمعاد للروح والجسد جميعا ما نصه:
"نعم ربما يميل كلامه وكلام كثير من القائلين بالمعادين إلى أن معنى ذلك أن يخلق الله تعالى من الأجزاء المتفرقة لذلك البدن بدنا فيعيد إليه نفسه المجردة الباقية بعد خراب البدن .ولا يضرنا كونه غير البدن الأول بحسب الشخص ولا امتناع إعادة المعدوم بعينه ، وما شهدت به النصوص من كون أهل الجنة جردا مردا وكون ضرس الكافر مثل جبل أحد يعضد ذلك ، وكذا قوله:{ كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها} ( النساء 56 ) ولا يبعد أن يكون قوله تعالى:{ أو ليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم} ( يس 81 ) إشارة إلى هذا .
فإن قيل:فعلى هذا يكون المثاب والمعاقب باللذات والآلام الجسمانية غير من عمل الطاعة ، وارتكب المعصية ، قلنا:العبرة في ذلك بالإدراك وإنما هو للروح ولو بواسطة الآلات وهو باق بعينه ، وكذا الأجزاء الأصلية من البدن .ولهذا يقال للشخص من الصبا إلى الشيخوخة إنه هو بعينه وإن تبدلت الصور والهيئات ، بل كثير من الآلات والأعضاء ولا يقال لمن جنى في الشباب فعوقب في المشيب إنها عقوبة لغير الجاني .
قال: "لنا أن المعتمد في إثبات حشر الأجساد دليل السمع والمفصح عنه غاية الإفصاح من الأديان دين الإسلام ومن الكتب القرآن ، ومن الأنبياء محمد عليه السلام ، والمعتزلة يدعون إثباته بل وجوبه بدليل العقل وتقريره أنه يجب على الله ثواب المطيعين ، وعقاب العاصين ، وإعواض المستحقين ، ولا يتأتى ذلك إلا بإعادتهم بأعيانهم ، فيجب ، لأن ما لا يتأتى الواجب إلا به واجب ، وربما يتمسكون بهذا في وجوب الإعادة على تقرير الفناء ومبناه على أصلهم الفاسد في الوجوب على الله تعالى ، وفي كون ترك الجزاء ظلما لا يصح صدوره من الله تعالى مع إمكان المناقشة في أن الجواب لا يتم إلا به ، وأنه لا يكفي المعاد الروحاني ويدفعون ذلك بأن المطيع والعاصي هي هذه الجملة أو الأجزاء الأصلية لا الروح وحده ، ولا يصل الجزاء إلى مستحقه إلا بإعادتها .
( والجواب ) أنه إن اعتبر الأمر بحسب الحقيقة فالمستحق هو الروح لأن مبني الطاعة والعصيان على الإدراكات والإرادات والأفعال والحركات وهو المبدأ للكل ، وإن اعتبر بحسب الظاهر يلزم أن يعاد جميع الأجزاء الكائنة من أول التكليف إلى الممات ولا يقولون بذلك ، فالأولى التمسك بدليل السمع .
"وتقريره أن الحشر والإعادة أمر ممكن أخبر به الصادق فيكون واقعا .أما الإمكان فلأن الكلام فما عدم بعد الوجود أو تفرق بعد الاجتماع أو مات بعد الحياة فيكون قابلا لذلك .والفاعل هو الله القادر على كل الممكنات .العالم بجميع الكليات والجزئيات .وأما الأخبار فلما تواتر عن الأنبياء سيما نبينا عليه السلام أنهم كانوا يقولون بذلك لما ورد في القرآن من نصوص لا يحتمل أكثرها التأويل مثل قوله تعالى:{ قال من يحي العظام وهي رميم ؟ قل يحييها الذي أنشأها أول مرة} ( يس 78- 79 ){ فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون} ( يس 51 ){ فسيقولون من يعيدنا ؟ قل الذي فطركم أول مرة} ( الإسراء 51 ){ أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه ؟ بلى قادرين على أن نسوي بنانه} ( القيامة 3- 4 ){ وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا ؟ قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء} ( فصلت 21 ){ كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها} ( النساء 56 ){ يوم تشقق الأرض عنهم سراعا ذلك حشر علينا يسير} ( ق 44 ){ أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور} ( العاديات 9 ) إلى غير ذلك من الآيات ومن الأحاديث أيضا ( وهي ) كثيرة .وبالجملة فإثبات الحشر من ضروريات الدين وإنكاره كفر بيقين .
فإن قيل:الآيات المشعرة بالمعاد الجسماني ليست أكثر وأظهر من الآيات المشعرة بالتشبيه والجبر والقدر ونحو ذلك ، وقد وجب تأويلها قطعا فلنصرف هذه أيضا إلى بيان المعاد الروحاني وأحوال سعادة النفوس وشقاوتها بعد مفارقة الأبدان على وجه يفهمه العوام .فإن الأنبياء مبعوثون إلى كافة الخلائق لإرشادهم إلى سبيل الحق وتكميل نفوسهم بحسب القوة النظرية والعملية وتبقية النظام المفضي إلى صلاح الكل ، وذلك الترغيب والترهيب بالوعد والوعيد ، والبشارة بما يعتقدونه لذة وكمالا والإنذار عما يعتقدونه ألما ونقصانا .وأكثرهم عوام تقصر عقولهم عن فهم الكمالات الحقيقية .واللذات العقلية ، وتقتصر على ما ألفوه من اللذات والآلام الحسية ، وعرفوه من الكمالات والنقصانات البدنية .فوجب أن تخاطبهم الأنبياء بما هو مثال للمعاد الحقيقي ترغيبا وترهيبا للعوام ، وتتميما لأمر النظام .وهذا ما قاله أبو نصر الفارابي:إن الكلام مُثُلٌ وخيالاتٌ للفلسفة .
قلنا:إنما يجب التأويل عند تعذر الظاهر ولا تعذر ههنا سيما على القول بكون البدن المعاد مثل الأول لا عينه .وما ذكرتم من حمل كلام الأنبياء ونصوص الكتاب على الإشارة إلى مثال معاد النفس والرعاية لمصلحة العامة ، نسبة للأنبياء إلى الكذب فيما يتعلق بالتبليغ ، والقصد إلى تضليل أكثر الخلائق ، والتعصب طول العمر لترويج الباطل وإخفاء الحق ، لأنهم لا يفهمون إلا هذه الظواهر التي لا حقيقة لها عندكم .نعم لو قيل إن هذه الظواهر مع إرادتها من الكلام وثبوتها في نفس الأمر مثل للمعاد الروحاني واللذات والآلام العقلية وكذا أكثر ظواهر القرآن على ما يذكره المحققون من علماء الإسلام لكان حقا لا ريب فيه ، ولا اعتداد بمن ينفيه اه كلام التفتازاني .
ومن تأمل هذا من أهل عصرنا تظهر له دقة أفهام هؤلاء المتكلمين الذين صوروا الشبهة بنحو مما يؤخذ من أحدث ما قرره علماء هذا العصر في علم الكمياء وغيره وأجابوا عنها بما يغني عن جواب آخر ، وما قاله الفارابي وأمثاله فهو كأكثر فلسفتهم فيما وراء الطبيعة جهل بحقيقة الإنسان ، وضلال في تأويل الأديان ، فالإنسان روح وجسد ، وكماله بحصول لذاته الروحية والجسدية جميعا ولا تنافي بينهما ، ولو كان روحانيا محضا لكان ملكا أو شيطانا ولم يكن إنسانا وقد سبق لنا بيان هذه الحقيقة مرارا .
وأما القول بالأجزاء الأصلية والأجزاء الفضلية فهو لا يدفع الشبهة ، ولا تقوم به حجة ، وتفسير الأجزاء الأصلية بالذر أو ما يشبهه الذي ورد أن الله تعالى جعله في صلب آدم وأخذ عليه الميثاق فهو غير ظاهر في هذا المقام إذ لا يصح أن تكون هذه الجراثيم المشبهة بالذر من أجزاء الجسد الظاهرة التي يعنيها من يقولون بحشر هذه الأجساد بأعيانها .
ولكن لهذه المسألة وجها آخر من النظر العلمي ، وهو هل خلق الله للبشر في التكوين الأول جراثيم حية تتسلسل في سلائلهم التناسلية ، فإن مسألة أصول الأحياء كلها من أخفى مسائل الخلق ، والقاعدة المبنية على التجارب والمباحث الكثيرة أن كل حي يوجد في الأرض في حالها هذه فهو من أصل حي كما تقدم ، وأن كل أصل من جراثيم الأحياء الحيوانية والنباتية يندمج فيه جميع مقوماته ومشخصاته التي يكون عليها إذا قدر له أن يولد وينمى ويكمل خلقه ، فنواة النخلة مشتملة على كل خواص النخلة التي تنبت منها حتى لون بسرها وشكله ودرجة حلاوته عندما يصير رطبا فتمرا ، ولا يعلم أحد من البشر كيف وجدت هذه الأصول والجراثيم في التكوين الأول ، سواء منهم القائلون بخلق الأنواع دفعة واحدة والقائلون بالخلق التدريجي على قاعدة النشوء والارتقاء ، إلا أن لهؤلاء نظرية في تصوير التكوين الأول من مادة زلالية مكونة من عناصر مختلفة لها قوى التغذي والانقسام والتوالد في وقت كانت طبيعة الأرض فيها غير طبيعتها في هذا الزمن وما يشبهه منذ ألوف الألوف من السنين .ولكن كيف صار لما لا يحصى من أنواع النبات والحيوان الدنيا والوسطى والعليا جراثيم مشتملة على ما أشرنا إليه من الخواص والأسرار لا تتولد إلا منها ؟ إنهم ليسوا على علم صحيح بهذا ولا بما قبله{ ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم} ( الكهف 51 ) .
أطال شيخنا حسين الجسر رحمه الله تعالى في المسألة فأثبت أنها من الممكنات إذ لا محال في إيداع الملايين الكثيرة من النسم في ظهر آدم وقد ثبت عند علماء هذا العصر أن في نقطة الماء من الجراثيم الحية بعدد جميع من على الأرض من البشر ، وارتأى أن مستودعها من آدم كان في منيه ، وأنها كانت تخرج منه بالوقاع ( قال )"فتحل في البروز التي تنفصل من مبيض زوجته فيكون هياكلها من تلك البروز مع السائل المنوي ويطورها أطوارا حتى تبلغ صورة الهيكل الإنساني ، وأول ذرة من أولاده نقلها إلى بزرتها نقل معها عدد الذرات التي تكون أولادا لها ثم ينقل تلك الذرات في المني الذي ينفصل فيما بعد عن هيكل هذه الذرة الأولى ، وهكذا الحال في بقية أولاده وأولادهم يفعل على تلك الكيفية إلى آخر الدهر ...وعند بلوغ كل هيكل إلى حد محدود يرسل الله تعالى الروح فتحل في ذرتها وتسري فيها وفي هيكلها الحياة والحركة ، فكل إنسان هو مجموع الروح والذرة ، وهذه الذرة هي الأجزاء الأصلية التي قال بها أتباع محمد صلى الله عليه وسلم وأنها الباقية مدة العمر وهي المعادة بإعادة الروح إليها بعد أن تفارقها بالموت ، والهيكل هو الأجزاء الفضلية التي تروح وتجيء وتزيد وتنقص .فإذا أراد الله تعالى موت الإنسان فصل عن ذرته الروح ففارقتها الحياة وفارقت الهيكل الذي هو الأجزاء الفضلية وحلهما الموت فيأخذ الهيكل بالانحلال ويجري عليه من التفرق والدخول في تركيب غيره ما يجري ، والذرة محفوظة بين أطباق الثرى كما تحفظ ذرات الذهب من البلى والانحلال وإن دخلت في تركيب حيوان فإنما تدخل في تركيب هيكله الذي هو الأجزاء الفضلية محفوظة غير منحلة ، فإذا انحل ذلك الهيكل عادت محفوظة في أطباق الثرى ولا تدخل في تركيب الأجزاء الأصلية لذلك الحيوان التي هي حقيقته ، غاية ما يطرأ عليها بالموت مفارقة الروح لها ، وانحلال هيكلها ، وإذا أراد الله تعالى حياتها أعاد الروح إليها ، فتعود إليها الحياة وبقية خواصها وإن كان هيكلها منحلا .
"ومن هنا تنحل شبه سؤال القبر ونعيمه وعذابه وأمثال ذلك من أمور البرزخ التي وردت النصوص الشرعية بها ، وإنها تكون قبل البعث .
"ثم إذا أراد الله تعالى أن يبعث الخلق للحساب أعاد تكوين هياكل الذرات الإنسانية التي هي الأجزاء الفضلية سواء كانت هي الأجزاء السابقة أو غيرها إذ المدار على عدم تبدل الذرات ، وأحل الذرات في تلك الهياكل وبتعلق الروح بما تقوم فيها وفي هياكلها الحياة ، ويقوم البشر في النشأة الآخرة كما كانوا في هذه الدار ، وجميع ما تقدم يمكن أن يكون حاصلا في بقية الحيوانات غير الإنسان في جميع تفصيله ".
ثم ضرب للماديين الأمثال المقربة لذلك بأنواع جنة الأحياء الخفية"الميكروبات "وحياتها في الماء وغيره على كثرتها بنظام غريب ودخول المرضية منها في أجساد المرضى وسريانها في دورة الدم ، وبالحيوانات المنوية منها في المني الذي ينفصل من الانثيين ويلقح بذور الأنثى وقال بعد تلخيص ما قالوه في صفتها وقدرها وحركتها:فأي مانع أن تلك الحيوانات المنوية جعلها الخالق تعالى تحمل ذرات بني آدم التي هي أصغر منها وتسير بها في السائل المنوي حتى تلقيها في البزور المنفصلة من مبيض الأم ؟ ..ثم علل بهذا كون الإنسان ينتقل من الأب إلى الأم خلافا لقولهم إن الإنسان من برزة أمه وليس لأبيه منه إلا مجرد التلقيح .
ثم ذكر عمل القلب وتعليلهم لحركته المنتظمة واستظهر أنه هو مركز الذرة الإنسانية وأنها بحلول الروح فيها تتحرك تلك الحركة المنتظمة التي تنشأ عنها دورة الدم ، وبعد إيضاح ذلك قال:
"وخلاصة ما تقدم أن الإنسان الحقيقي على هذا التقرير هو الذرة التي تحل في القلب وتحل فيها الروح فتكسبها الحياة وتسري الحياة إلى الهيكل ، ثم الهيكل إنما هو آلة لقضاء أعمال تلك الذرة في هذا الكون ولاكتساب معارفها بسببه ، وتلك الذرة مع الروح الحالة فيها هي المخاطب بالتكليف والمعاد والمنعم والمعذب إلى آخر ما ورد في حق الإنسان .
"وعلى هذا التقرير نجد أن الشبه التي وردت على ما جاء في الشريعة المحمدية من البعث وسؤال القبر ونعيمه وعذابه وحياة بعض البشر في قبورهم ونحو ذلك سقطت برمتها كما يظهر بالتأمل الصادق والله أعلم ".
ثم أورد على هذا أن بعض النصوص صريحة في إعادة الهيكل الإنساني أو بعضه كالعظام كما تقدم مثله عن السعد وأجاب بأن هذه النصوص وردت لدفع إشكالات أخرى كانت تعرض لأفكار أهل الجاهلة في إعادتها ، إذ عند ذكر البعث لا تنصرف أفكارهم إلا إلى إعادة هذا الهيكل المشاهد لهم ، فيقولون كيف تعود الحياة للعظام بعد أن تصير رميما ؟ فتدفع هذه النصوص إشكالاتهم بقدرة الله الشاملة وعلمه المحيط قال:وهذا لا ينافي التوجيه الذي تقدم في إعادة الأجزاء الأصلية التي هي الذرات لتدفع به الإشكالات الأخرى التي تقدمت فليتأمل اه ثم صرح بأنه لا يقول إن ما حرره مما يجب اعتقاده ، وإنما هو لدفع الإشكال عمن يعرض له .
فهذا ملخص رأيه رحمه الله تعالى وغايته أنه مبني على تأويل بعض الآيات كغيره .وليس فيه إلا محاولة الجمع بين ما ورد في خلق ذرية آدم وقول من قال بالفرق بين الأجزاء الأصلية والفضلية ، وهو تكلف لا حاجة إليه ولا يمكن أن يكون المراد بالأجزاء الأصلية لكل فرد ذرة حية في بدنه كالجنة التي لا ترى في الماء والدم وغيرهما بغير المنظار المكبر ( المجهر ) .
نعم إنه يجوز عقلا أن يحمل الحيوان المنوي الذي يلقح بويضة المرأة في الرحم ذرة حية هي أصل الإنسان .كما يجوز أن يكون هذا الحيوان المنوي نفسه هو الذي ينمى في البويضة ويكون إنسانا وأن يكون أصله ما يتولد من ازدواج خليته بخليتها كما سيأتي وأيها كان أصل الإنسان فإنما يكون كذلك بكبره ونمائه كما تكون نواة الشجرة شجرة باسقة مثمرة وبذلك يكون الفرع عين الأصل فلا يكون له أصل آخر بشكل مصغر في هذا الهيكل لا في القلب ولا في المني ، وإنما قد يكون في هيكله أصل وأصول لأناسي آخرين يكونون فروعا له إذا أراد الله ذك كما يكون للنخلة النابتة من النواة نوى كثيرة يمكن أن ينبت منها نخل كثير .
وأما المعروف عند علماء العصر في هذا الشأن فهو أن سر حركة القلب وإن كان لا يزال مجهولا فمن المعلوم أن الدم الوارد منه إلى الخصيتين هو الذي يغذيهما وبتغذيتهما به تنقسم خلاياهما فتتولد الحيوانات المنوية من انقسامها وتلك سنة الله في جميع الأحياء تتغذى وتنمي بالتوالد الذي يكون من انقسام الخلايا التي تتكون بنيتها منها .ومن غريب صنع الله الذي أتقن كل شيء أن في كل خلية من خلايا الأجساد الحية نويتين ( تصغير نواة ) صغيرتين تتولد الخلية الجديدة باقترانهما فسنة الزواج عامة في أنواع الأحياء وفي دقائق بنية كل منها كما قلنا في المقصورة:
وسنة{[1186]} الزواج في النتاج بل *** كل تولد تراه في الدنا
فاجتله في الحيوان ناطقا *** وأعجما وفي النبات المجتنى
بل كل ذرة بدت في بنية *** زاد بها الحي امتدادا ونمى{[1187]}
خلية تقرن في غضونها *** نويتان فإذا الفرد زكا{[1188]}
والحيوانات المنوية تتولد من الخلايا المبطنة بها الخصية من داخلها بسبب تغذية الدم ولا مانع من وجود سبب مخفي لذلك الدم كذرات حية لا ترى في المناظير المكبرة المعروفة الآن ، فهم يقولون بأن لا يبعد ان يوجد مناظير أرقى منها يرى فيها من أنواع هذه الجنة المسماة بالبكتيريا ما لا يرى الآن .
وهم يقولون إن الحيوان المنوي له خلية واحدة وله رأس وجسم وذنب ورأسه هو نواة الخلية ، وهو سريع الحركة شديد الاضطراب ، ويتولد من عهد بلوغ الحلم لا قبله ، فإذا وصلت هذه الحيوانات إلى رحم الأنثى مع المني الذي يحمله إليه تبحث بطبيعتها عن البويضة التي فيه فالذي يعلق يدخل رأسه فيها وهي مثله نواة أو نوية واحدة فيحصل التلقيح باقتران النويتين .
ويقولون إن بويضات النسل تكون في البنت من ابتداء خلقها فتولد وفيها ألوف منها معدودة لا تزيد ويظنون أنها تسقط منها في زمن الطفولة ، ثم تتكون فيها بويضات النسل بعد البلوغ بسبب دم الحيض ، ذلك بأن في داخل الرحم عضوين مصمتين يشبهان خصيتي الرجل يسميان المبيضين لأن في داخلهما بويضات دقيقة جدا لا ترى إلا بالمناظير المكبرة تكون في حويصلات يقترب بعضها من سطح المبيض رويدا رويدا حتى ينفجر منه البويضة إلى بوق الرحم فتكون مستعدة بذلك لتلقيح الحيوان المنوي لها .وأكثرها يضمر بالتدريج إلى أن يضمحل ولا ينفجر وإنما ينفجر ما ينفجر منها في زمن الحيض .والمعروف أن كل حيضة تفجر حويصلة واحدة ، تكون منها بويضة واحدة في الغالب ، وإن ذلك يكون بالتناوب بين المبيضين مرة في الأيمن ومرة في الأيسر ، وقد اهتدى أحد الأطباء بالتجارب الطويلة إلى أن البويضة التي تكون في المبيض الأيمن يتولد منها الذكر والتي تكون في المبيض الأيسر تتولد منها الأنثى ، وإنه متى عرف بوضع المرأة أول ولد لها متى كان حملها يمكن أن يعرف بعد ذلك دور بويضة الذكر ودور بويضة الأنثى في الغالب ويكون للزوجين كسب واختيار لنوع المولود إن قدره الله لهما .وقد فصلنا هذه المسألة في تفسير:{ وعنده مفاتح الغيب} ( الأنعام 56 ) ومن سورة الأنعام .وأما التوأمان فسببهما إما انفجار بويضتين فأكثر شذوذا وإما اشتمال البويضة الواحدة على نويتين يلقحان معا ، والله أعلم .وقد ذكرنا هذا الاستطراد للاعتبار بقدرة الخالق وسعة علمه ودقائق حكمته بعد توفية مسألة البعث حقها من البحث وكان المناسب أن يذكر بحث التكوين في سياق خلق آدم في أوائل السورة .
/خ58