{ والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا كذلك نصرف الآيات لقوم يشكرون ( 58 )} .
البلد:الأرض ، وهي الأرض ذات التربة الخصبة المشتملة على كل ما يتكون منه النبات أو الغراس مع الماء والحرارة ، وما تقتضيه طبيعة النبات ، وما يكون غذاء له ، والأرض الخبيثة أو البلد الخبيث ما تكون تربته غير منبتة كالحجارة أو ما يشبهها ، وكالأرض التي تكون قريبة من المالح ، فيكون ملحها مفسدا لطينتها وخصبها ، وخبيثها حجارتها وسبخها ، وكل ما لا ينبت ، ومنه الرمال التي لا تحبس الماء ، فالبلد الطيب يخرج نباته طيبا غزيرا كثيرا ، يشبع ويرضى الزراع بإذن الله ، والذي خبث لا يخرج إلا نكدا ، أي القليل الذي لا يسمن ولا يغني من جوع ، فالنكد هو القليل ، هو يصيب الزراع بنكد وغم وحزن ، وكأنه ينبت ذلك النكد الذي لا طيب فيه ولا نفع منه .
وإن ذلك مثل لتقسيم الأرزاق ، فمن الناس من رزقه الله تعالى أرضا طيبة تأتي له بالخيرات والثمرات ، ومن الناس من اختبره الله بأرض خبيثة لا تخرج إلا نكدا ، وهذه تدعوه إلى أن يبحث عن أرض خير منها{. . . . . . . . . فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور ( 15 )} ( الملك ) ، وأن يبحث عن خيرات الأرض من باطنها مما اختزنته من معادن وفلزات وكنوز ، وأحجار وماس ، وكل ما له نفاسة ، فكل أرض الله تعالى لا تخلوا من خير .
وهذا معناه أنه لا يمكن أن يمحي الفقر والغنى أو يذاب ما بينهما من فروق كما يقول الجهلاء الذين لا يؤمنون بشيء ، وقد نقص إدراكهم عن أن يصل إلى حقائق الوجود ، وإن تزعموا وتحكموا ، وحكموا بالباطل .
وإن بيان معاني هذه الآية المحكمة على أنها حقيقة تبين قدرة الله وتصريف خيرات الوجود بمقتضى علم الله تعالى ، وتدبيره وحكمته ، وأن بلاد الله فيها الطيب الذي يحييه خير الله ، وينزل الماء فيه ، وفيها الجدب الخبيث الذي لا ينبت إلا نكدا ، وإن كان قد ضم باطنه خير آخر ، لا في الطعام والثمر والزرع ، ولكن في منافع الناس .
وقد رأى ابن عباس – رضي الله عنهما – انه مثل ضربة الله تعالى للمؤمن والكافر ، فالمؤمن كالبلد الطيب يخرج نباته وثماره بإذن ربه ، فقلب المؤمن كالأرض الرطبة لا يكون منها إلا ما هو طيب ، وقلب الكافر خبيث كاالبلد الخبيث الذي لا ينتج إلا نكدا ، قبيحا وشرا .
وقد روى البخاري عن أبي موسى الأشعري عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال:( مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير ، أصاب أرضا ، فكانت نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير ، وكانت فيها أجادب أمسكت الماء ، فنفع الله بها الناس فشربوا ، وسقوا وزرعوا ، وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان ، لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ ، فذلك مثل من فقه في دين الله ، ونفعه ما بعثني الله تعالى به فعلم وعلم ، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به ( 1 ){[1120]}"، ولقد ختم الله تعالى الآية الكريمة بقوله تعالت كلماته:{ كذلك نصرف الآيات لقوم يشكرون} .
التشبيه والإشارة هنا{ كذلك} الذي رأيت من تصريف القول من بيان نعمة الله على الوجود بخلق السماوات والأرض في ستة أيام ، وبيان النعم في الإنبات والإثمار ، وإخراج كل ما هو نافع للأحياء ، كهذا الذي رأيت نصرف الآيات ، ونبنيها في تصريف محكم مقرب للنفوس ، أي كهذا التصريف في ذكر هذه الآيات ، نصرف – في بيان الحقائق دائما ، لقوم من شأنهم الشكر ، وتقبل النعمة بالقيام بحقها ؛ ولذا عبر بالمضارع الدال على تجدد الشكر المنبعث من النفس الإنسانية المؤمنة ، والله غفور شكور .