القص القرآني:
بعد الآيات الكونية التي ذكرها الله تعالى دالة على وحدانيته – سبحانه وتعالى – ساق أنباء الرسل ، ودعوتهم إلى التوحيد ، وتبليغهم رسالات ربهم في إصلاح الإنسان ، والقيام بحق ما أنعم الله به عليه ، وأنباء من أرسلوا إليهم ، وكفر من كفر ، وعناده ، وأخبر عن دعوة كل رسول وما أجيب به ، وذلك لأمور كثيرة:
أولها – العبرة بأحوال السابقين والوثنيين الذين اعترضوا على الأنبياء ، لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب .
وثانيها – بيان ما نزل بالمشركين الذين كفروا بالله وكذبوا الأنبياء وعاندوهم وآذوا من اتبعوهم ، من عذاب حتم عليهم ، ومن خسف جعل عالي ديارهم سافلها ، ومن ريح صرصر عاتية ، وليعلم الوثنيون الذين يخاطبون النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن الله تعالى يمهلهم ولا يهملهم ، كما قال تعالى:{ ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة وقد خلت من قبلهم المثلات وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم وإن ربك لشديد العقاب ( 6 )} ( الرعد ) .
وثالثها – أن الآيات مهما تكن شديدة قارعة حسية لا تجعل من القلب الجاحد مؤمنا ، فهؤلاء السابقون جاءتهم الآيات الحسية القارعة ، ولكن لم تحمل الوثنيين على الإيمان ، بل جحدوا وإن كانوا مستيقنين .
و رابعها – التسرية عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأنه لم يكن أول من كذب وجحدت آياته بل كذبوا من قبل .
و خامسها – أن في نبأ كل نبي من الأنبياء تساق الحجج على التوحيد ، والتنبيه إلى آيات الله تعالى في الكون .
وسادسها – أن في القصص علم الأمم ، وأخلاقها ، وضلالها ، وهداية من يهتدى .
من نبأ نوح – عليه السلام –
لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ( 59 ) قَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ( 60 ) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ ( 61 ) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ( 62 ) أَوَعَجِبْتُمْ أَن جَاءكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُواْ وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ( 63 ) فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً عَمِينَ ( 64 )
ابتدأ نوح كلامه مع قومه مستدنيا قلوبهم ، مقربا القول إلى نفوسهم ، وكان إرساله إليهم ، ولم يوجد ما يدل على أنه أرسل لغيرهم ، كما قامت رسالة رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الناس .
قال عليه السلام:{ يا قوم} نادى بالرابطة التي تربط بهم ، وهي أنهم قوم الذين يستنصرهم ، ويعتز بصلتهم ويريد الخير لهم ، ويجب كل كمال لهم:{ اعبدوا الله ما لكم من إله غيره} والجملة الأولى دعوة إلى عبادته لأنه خالق الكون ومنشئ الوجود ، والجملة الثانية تدل على انفراده وحده بالألوهية ، فهي نفي وإثبات ؛ نفى أن يكون لهم إله غير الله ، ولذا قال:{ ما لكم من إله غيره} ، أي ليس لكم من إله غيره سبحانه ، و ( من ) لاستغراق النفي ، والمعنى:ليس لكم أي إله يعبد غيره ؛ لأنه الخالق' ، ولأنه ليس كمثله شيء في ذاته أو صفاته ، فهو المعبود وحده .
وقد حذرهم من عصيان الله تعالى ، والكفر به ، وعبادة غيره ، فقال:{ إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم} وفي هذا يظهر عطفه عليهم داعما دعوته بخشية ما ينزل بهم ، ومع ذلك هو تهديد لهم بعاقبة إنكارهم . وقد أكد خوفه عليهم بكل مؤكدات القول ، ب ( إن ) ، وبقوله:{ عليكم} ، وتنكير العذاب ، و{ عظيم} ، وأنه لا يدرك جهته ، ولا تدرك المشاعر الآن حقيقته . هذه هي الدعوة إلى التوحيد والترغيب فيها ، والترهيب من عصيانها ؛ فبماذا أجاب قومه ؟ .