{ لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ 59 قَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ 60 قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ 61 أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ 62 أَوَعَجِبْتُمْ أَن جَاءكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُواْ وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ 63 فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً عَمِين 64}
قصص الرسل المشهورين مع أقوامهم
هذا سياق جديد في قصص الأنبياء المرسلين المشهور ذكرهم في الأمة العربية والشعوب المجاورة لها قد سبق التمهيد له فيما تقدم من نداء الله تعالى لبني آدم بقوله:{ يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم} إلى آخر الآيتين 33 و34 ومنه يعلم وجه التناسب واتصال الكلام .
قصة نوح عليه السلام
قال تعالى:
{ لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِه} بدأ تعالى هذه القصة بالقسم لتأكيد خبرها لأول من وجه إليهم الخطاب بها وهم أهل مكة ومن وراءهم من العرب ، إذ كانوا ينكرون الرسالة والوحي ، على كونهم أميين ليس عندهم من علوم الأمم وقصص الرسل شيء .إلا أن تكون كلمة في بيت شعر مأثور أو عبارة ناقصة من بعض أهل الكتاب حيث كانوا يلقونهم من بلاد العرب أو الشام أو ممن تهود أو تنصر منهم ، وكلهم أو جلهم ظلوا على أميتهم .والقسم محذوف دل عليه لامه في بدء الجملة وهي لا تكاد تجيء إلا مع قد لأنها مظنة التوقع ، ونوح أول رسول أرسله الله تعالى إلى قوم مشركين هم قومه كما ثبت في حديث في عدد الشفاعة وغيره ، وتقدم التحقيق في هذه المسألة في تفسير سورة الأنعام عند البحث في عدد الرسل المذكورين في القرآن وهل يعد آدم منهم أم لا ؟ ( ج 7 ) وأخرج البخاري في صحيحه عن ابن عباس أن قوم نوح هم الذين صوروا بعض الصالحين منهم ثم وضعوا لهم الصور والتماثيل لإحياء ذكرهم والاقتداء بهم ، ثم عدوا صورهم وتماثيلهم وقد تقدم بيان هذا في تفسير الأنعام ( ج 7 ) وغيره .
{ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُه} أي فناداهم بصفة القومية مضافة إليه استمالة لهم ، ودعاهم إلى عبادة الله تعالى وحده مع بيان أنه ليس لهم إله غيره يتوجهون إليه في عبادتهم ، بدعاء يطلبون به ما لا يقدرون عليه بكسبهم ، وما جعله الله في استطاعتهم من الأسباب التي تنال بها المطالب ، فإن مثل هذا هو الذي يتوجه في طلبه إلى الرب الخالق لكل شيء الذي بيده ملكوت كل شيء وهذا التوجه والدعاء هو مخ العبادة ولبابها فلا يحل لمؤمن بالله تعالى أن يتوجه فيه إلى غيره البتة لا استقلالا ولا بالتبع للتوجه إلى الله تعالى وإرادة التوسط به عنده فإن هذا عين الشرك ، الذي ضل به أكثر من ضل من الخلق .
وقوله تعالى: "من إله "يفيد تأكيد النفي وعمومه ، فلو قال قائل"ما عندنا من طعام أو أكل ( بضمتين )"أفاد أنه ما ثم شيء مما يطعم ويؤكل ، ولو قال:ما عندنا طعام أو أكل لصدق بانتفاء ما يسمى بذلك مما يقدم عادة لمن يريد الغذاء أو العشاء من خبز وإدام فإن كان لدى القائل بقية من فضلات المائدة أو قليل من الفاكهة لا يكون كاذبا .والمراد من النفي العام المستغرق هنا أنه ليس لهم إله ما يستحق أن يوجه إليه نوع ما من أنواع العبادة لا لرجاء النفع أو دفع الضرر منه لذاته ، ولا لأجل توسطه وشفاعته عند الله تعالى ، بل الإله الحق الذي يستحق أن تتوجه القلوب إليه بالدعاء هو الله وحده .
قرأ الكسائي"غيره "بالكسر على الصفة للفظ"إله "والباقون بالرفع باعتبار محله من الإعراب لأن أصله ما لكم إله غيره .
{ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيم} هذا إنذار مستأنف علل به الأمر بعبادة الله تعالى وحده المستلزم لترك أدنى شوائب الشرك بها ، وبيان لعقيدة البعث والجزاء وهي الركن الثاني من أركان الإيمان بعد التسليم بالرسالة .أي إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم إذا لم تمتثلوا ما أمرتكم به ، وهو يوم القيامة الذي يبعث الله تعالى فيه العباد ويجازيهم بإيمانهم وكفرهم وما يترتب عليهما من أعمالهم .وقيل يوم الطوفان ويضعف بأن الإنذار به لم يكن عند تبليغ الدعوة بل بعد طول الإباء والرد والوصول معهم إلى درجة اليأس المبين بقوله تعالى من سورته حكاية عنه{ قال رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا فلم يزدهم دعائي إلا فرارا} ( نوح 5- 6 ) الآيات وبقوله من سورة هود:{ وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن} ( هود 36 ) الآيات إلا أن يراد باليوم العظيم عذاب الدنيا مطلقا .