فتضمنت هذه الآية أمورا:
أحدها:أن الحياة النافعة إنما تحصل بالاستجابة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، فمن لم تحصل له هذه الاستجابة فلا حياة له ، وإن كانت له حياة بهيمية ، مشتركة بينه وبين أرذل الحيوانات ، فالحياة الحقيقية الطيبة هي حياة من استجاب لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ظاهرا وباطنا ، فهؤلاء هم الأحياء ، وإن ماتوا وغيرهم أموات وان كانوا أحياء الأبدان ، ولهذا كان أكمل الناس حياة أكملهم استجابة لدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم فإن كان ما دعا إليه ففيه الحياة ، فمن فاته جزء منه فاته جزء من الحياة ، وفيه من الحياة بحسب ما استجاب للرسول صلى الله عليه وسلم قال مجاهد:{ لما يحييكم} يعني:للحق .
وقال قتادة:هو هذا القرآن ، فيه الحياة والثقة والنجاة والعصمة في الدنيا والآخرة . وقال السدي:هو الإسلام أحياهم به بعد موتهم بالكفر .
وقال ابن إسحاق وعروة بن الزبير رضي الله عنهما - واللفظ له - لما يحييكم:يعنى للحرب التي أعزكم الله بها بعد الذل ، وقواكم بعد الضعف ، ومنعكم بها من عدوكم بعد القهر منهم لكم .
وهذه كل عبارات عن حقيقة واحدة ، وهي القيام بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم - ظاهرا وباطنا .
قال الو احدي:والأكثرون على أن معنى قوله{ لما يحييكم} هو الجهاد . وهو قول ابن إسحاق ، واختيار أكثر أهل المعاني .
قال الفراء:إذا دعاكم إلي إحياء أمركم بجهاد عدوكم ، يريد أن أمرهم إنما يقوي بالحرب والجهاد ، فلو تركوا لجهاد ضعف أمرهم ، واجترأ عليهم عدوهم .
قلت:الجهاد من أعظم ما يحييهم به في الدنيا ، وفي البرزخ ، وفي الآخرة . أما في الدنيا فإن قوتهم وقهرهم لعدوهم بالجهاد .
وأما في البرزخ:فقد قال تعالى:{ ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون} [ آل عمران:169] .
وأما في الآخرة:فان حظ المجاهدين والشهداء من حياتها ونعيمها أعظم من حظ غيرهم ، ولهذا قال ابن قتيبة:{ لما يحييكم} يعني الشهادة ، وقال بعض المفسرين:{ لما يحييكم} يعني الجنة ، فإنها دار الحيوان ، وفيها الحياة الدائمة الطيبة ، حكاه أبو علي الجرجاني ، والآية تتناول هذا كله ، فإن الإيمان والإسلام والقرآن ، والجهاد يحيي القلوب الحياة الطيبة ، وكمال الحياة في الجنة ، والرسول داع إلي الإيمان وإلى الجنة .
وهو داع إلى الحياة في الدنيا والآخرة ، والإنسان مضطر إلى نوعين من الحياة:حياة بدنه التي بها يدرك النافع والضار ويؤثر ما ينفعه على ما يضره ، ومتى نقصت فيه هذه الحياة ناله من الألم والضعف بحسب ذلك . ولذلك كانت حياة المريض والمحزون وصاحب الهم والغم والخوف والفقر والذل دون حياة من هو معافى من ذلك .
وحياة قلبه وروحه التي بها يميز بين الحق والباطل ، والغي والرشاد ، والهوى والضلال فيختار الحق علي ضده ، فتفيده هذه الحياة قوة التمييز بين النافع والضار في العلوم والإرادات والأعمال . وتفيده قوة الإيمان والإرادة والحب للحق ، وقوة البغض والكراهة للباطل:فشعوره وتميزه ونصرته بحسب نصيبه من هذه الحياة . كما أن البدن الحي يكون شعوره وإحساسه بالنافع والمؤلم أتم ، ويكون ميله إلي النافع ونصرته عن المؤلم أعظم فهذا بحسب حياة البدن ، وذاك بحسب حياة القلب ، فإذا بطلت حياته بطل تمييزه وإن كان له نوع تمييز لم يكن فيه قوة يؤثر بها النافع على الضار ، كما أن الإنسان لا حياة له حتى ينفخ فيه الملك - الذي هو رسول الله - من روحه ، فيصير حيا بذلك النفخ ، وكان قبل ذلك من جملة الأموات ، فكذلك لا حياة لروحه وقلبه حتى ينفخ فيه الرسول صلى الله عليه وسلم من الروح الذي ألقى إليه قال تعالى:{ ينزل الملائكة بالروح من أمره علي من يشاء من عباده} [ النحل:2] وقال:{ يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده} [ غافر:15] ، وقال:{ وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم} [ الشورى:52] فاخبر أن وحيه روح ونور ، فالحياة والاستنارة موقوفة على نفخ الرسول الملكي فمن أصابه نفخ الرسول الملكي ونفخ الرسول البشري حصلت له الحياتان .
ومن حصل له نفخ الملك دون نفخ الرسول حصلت له إحدى الحياتين ، وفاتته الأخرى .
قال تعالى:{ أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها} [ الأنعام:122] فجمع له بين النور والحياة ، كما جمع لمن أعرض عن كتابة بين الموت والظلمة . قال ابن عباس رضي الله عنهما وجميع المفسرين:كان كافرا ضالا فهديناه .
وقوله:{ وجعلنا له نورا يمشي به في الناس} يتضمن أمورا:
أحدها:أنه يمشي في الناس بالنور ، وهم في الظلمة ، فمثله ومثلهم كمثل قوم أظلم عليهم الليل ، فضلوا ولم يهتدوا للطريق ، وآخر معه نور يمشي به في الطريق ويراها ، ويرى ما يحذره فيها .
وثانيها:أنه يمشي فيهم بنوره فهم يقتبسون منه لحاجتهم إلى النور .
وثالثها:أنه يمشي بنوره يوم القيامة على الصراط إذا بقى أهل الشرك والنفاق في ظلمات شركهم ونفاقهم .
وقوله:{ واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه} [ الأنفال:24] .
المشهور في الآية:أنه يحول بين المؤمن وبين الكفر ، وبين الكافر وبين الإيمان ، ويحول بين أهل طاعته وبين معصيته ، وبين أهل معصيته وبين طاعته ، وهذا قول ابن عباس وجمهور المفسرين:وفي الآية قول آخر:أن المعنى:أنه سبحانه قريب من قلبه لا تخفى عليه خافيه ، فهو بينه وبين قلبه . ذكره الواحدي عن قتادة .
وكان هذا أنسب بالسياق ؛ لأن الاستجابة أصلها بالقلب فلا تنفع الاستجابة بالبدن ، دون القلب ، فإن الله سبحانه بين العبد وبين قلبه ، فيعلم هل استجاب له قلبه ، وهل أضمر ذلك أو أضمر خلافه ؟
وعلي القول الأول:فوجه المناسبة:إنكم إن تثاقلتم عن الاستجابة و أبطأتم عنها فلا تأمنوا أن الله يحول بينكم وبين قلوبكم ، فلا يمكنكم بعد ذلك من الاستجابة ، عقوبة لكم على تركها بعد وضوح الحق واستبانته ، فيكون كقوله:{ ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة} [ الأنعام:110] وقوله:{ فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم} [ الصف:5] وقوله:{ فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل} [ الأعراف:101] .
ففي الآية تحذير عن ترك الاستجابة بالقلب ، وإن استجاب بالجوارح .
وفي الآية سر آخر وهو أنه جمع لهم بين الشرع والأمر به وهو الاستجابة ، وبين القدر والإيمان به ، فهي كقوله:{ لمن شاء منكم أن يستقيم * وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين} [ التكوير:28 . 29] وقوله:{ فمن شاء ذكره * وما يذكرون إلا أن يشاء الله} [ المدثر:55 . 56] والله أعلم .