والله يدعوهم إلى الحق ، ويناديهم ليجيبوه ؛ ولذا قال تعالى:
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} .
النداء للذين آمنوا ، والنداء للبعيد ؛ لعموم النداء ، ولأن أداة البعيد أنسب في هذا المقام والنداء هو قوله تعالى:{ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ} والاستجابة معناها الإجابة ، والسين والتاء للطلب ، ومعنى ذلك أن المنادين يطلبون إجابة أنفسهم ، أي يسعون لأن يجيبوا ؛ لأن الإجابة لمنفعة أنفسهم ، لا لمنفعة من يجيبونه فالخير عائد إليهم ، وذكر الرسول بجوار إجابة الله تعالى لدلالة على أن إجابة الرسول إجابة لله تعالى ، ولبيان أن الرسول هو الذي يوجه الخطاب عن ربه لذا عاد الضمير بلفظ المفرد .
والاستجابة لأمر عظيم ، وصفه الله تعالى بأنه{ يجيبكم} فقال:{ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ} والأمر الذي يحيي الناس جميعا ؛ لأنه يعم كل المؤمنين – هو العقيدة ، وما اشتمل عليه القرآن من أوامر ونواه ، وأمر بمعروف ونهى عن المنكر ، فإن العقيدة وما اشتملت عليه من توحيد بها إحياء للعقول والنفوس بإدراك الحق ، وإنقاذهم من الأوهام ، والبعد عن مزالق الشيطان ، والشريعة بما فيها من أحكام زاجرة ، وأحكام مصلحة ورابطة للعلاقات الإنسانية على أكمل وجوه التعاون ، في كل هذا حياة للجماعات ؛ ولذا قال تعالى:{ أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها ( 122 )} ( الأنعام ) فجعل الهداية حياة ، وجعل الشرك موتا ، أو عيشا في الظلمات .
وبعض المفسرين قال:إن المراد بما يحيي هنا الجهاد ؛ لأن الجهاد في طلب الحق به حياة المم ، فما تركت أمة الجهاد إلا أماتها الذل ، وما اعتزت أمة بالجهاد إلا وهبت الحياة ، كما قال خليفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:( اطلب الموت توهب لك الحياة ) ، وكما قال الأستاذ الشيخ محمد عبده:( إن موتا في سبيل الحق هو عين البقاء ، وحياة في ذلة هي عين الفناء ) .
وإن الحق أن يكون ما يدعو إليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الشريعة كلها من عدل وتعاون وأمر بمعروف ، ونهي عن منكر ، وجهاد في سبيل الله ، وهو أعلاها ، وهو سنام الحق وعزته .
ويقول سبحانه وتعالى حاثا على القيام بالحق ومحاربة الهوى:
{ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ}
ذكر الزمخشري في تفسيره أن هذا التعبير السامي يحتمل ثلاثة تفسيرات:
أولها – أن الله تعالى أن الله تعالى مالك للإنسان في أفكاره ومشاعره ، فهو موجه قلبه إلى ما يريد الله تعالى ، فالله مالك كل شيء ، وهو موجه إليه في مصيره ، أي أنه هو الذي يحول المرء قلبه واتجاهه ، فهو لا يملك من أمره شيئا ، قالوا:إن هذا يفسر قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم مخاطبا ربه:( أنت مقلب القلوب ) ( 1 ){[1160]} ، ويظهر أن الزمخشري المعتزلي لا يرتضي هذا ؛ ولذلك يقول إنه قول بعض الجبرية ، وذلك غير مذهبه ، ويقول تعليقا على ذلك إن الله لا يوجب جبرا ولكن يوجه من صار في الخير إلى ما صار فيه ، ومن صار في غيره إلى نهايته .
الاحتمال الثاني – وهو الذي اختاره ، أن المعنى أن الله ، بأمره ونواهيه يحول بين المرء وقلبه أي بين المرء وما تهواه نفسه ، وما يشتهيه قلبه من لذائذ هذه الدنيا ، وشهواتها ، فالشريعة قامعة للنفوس كابحة للأهواء .
فإننا نرى ذلك حقا من غير أن نقرر بطلان السابق ، كما أشار الزمخشري .
والاحتمال الثالث – أن يراد قرب العبد من الله ، وأنه أقرب إليه من حبل الوريد ، وأنه بينه وبين قلبه كما قال الله تعالى:{ ادعوني أستجب لكم ( 60 )} ( غافر ) .
وإنه لا مانع من الجمع بين هذه الاحتمالات فليست متعارضة ، ولا شبه متعارضة ، فيصح أن يراد أن الله مالك كل شيء ، وأن شريعته فاصلة بين المرء وأهوائه وأن الله تعالى قرب منه مجيب دعاءه إذا دعاه ، وأنه رقيب عليه يراه .
ثم بين الله سبحانه أنه راجع إليه سبحانه ، فقال منذرا ، مبشرا:{ وأنه إليه تحشرون} .
الضمير ضمير الشأن والمعنى ، أنه الحال والشأن تحشرون ، أي تجمعون مهما يكن جمعكم ، ومهما تدخلت أجزاءكم في الأجسام ، ولو كنتم في حجارة أو حديد ، أو يخلق مما يكبر في صدوركم ، فأنتم مجتمعون ، والتعبير به{ تحشرون} يفيد الجمع مهما يكن العدد ، ومهما تتناثر الأجزاء أو يتباين كونها .
وقدم الجار والمجرور للدلالة على أن الناس جميعا يحشرون إليه وحده ، وهو الذي أنذر وبشر ، وأنه منفذ ما وعد ، وما أوعد .
فهذه الجملة السامية تربي مهابة اللقاء ، تؤكده ، وإنه لقاء بالغفور الرحيم العزيز الحكيم المنعم الجبار .