{ واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب} .
إن ظلم الجماعات لا تقف مغباته عند من يرتكب الظلم ، بل يتجاوز إلى الإفساد في الجماعة نفسها ، فمن أشاع الفاحشة في الدين آمنوا بأن جاهر بها مرتكبا لها ، أو أشاع قول السوء في الجماعة – إن ما يدعوا إليها ، محرضا عليه ، ولو كان ما يرتكبه ليس كثرا ، ولكن المجاهر بها دعوة إليها وتحريض عليها ؛ ولذلك كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، يدعوا إلى الاستتار ، فيقول فيما روى الشافعي:( يا معشر الناس من ارتكب شيئا من هذه القاذورات ، فل يستتر ، فهو في ستر الله ومن أبدى صفحته أقمنا عليه الحد ) ( 1 ){[1161]} .
من أجل هذا حث الله تعالى على اتقاء الفتن ، وهي ذنوب ، أو الذنوب التي تختبر بها الجماعات من شأنها أن تشيع أو تفسد رأيها العام ، كما نرى في عصور الانحلال وشيوع الفساد ، وشيوع الدعوات المنحرفة ويكون فيها الهوى .
متبعا ، والرأي منحرفا ، أو الفتن تموج كموج البحر ، كما رأينا في بغي معاوية ومن معه على إمام الهدى عالم المسلمين ، وحامل سيف الحق علي بن أبي طالب كرم الله وجهه .
يقول تعالى:{ واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة} ومعنى اتقوا:اجعلوا بينكم وبين الفتن التي تعم آثارها وقاية ، وذلك بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتنوير العقول وتثقيف القلوب . وتطهير الرأي العام من شيوع الأقوال الباطلة ، فإنها تفسد الأفكار ولا تجعلها متجهة صوب الحق ، تتميع العقول ، ويكون شح مطاع وهوى متبع ، ولا يكون التفكير الدقيق لما يقال ، بل يتبع كل فاسق .
وإن الوقاية تكون بأمرين:أولهما – العدل ، وثانيهما – الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
ولذا قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:( ( لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يدي الظالم ولتأطرنه على الحق أطرا ، أو ليضربن الله بقلوب بعضكم ، ثم تدعون فلا يستجاب لكم ) ( 1 ){[1162]} .
وقوله تعالى:{ لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة} هي جواب لشرط محذوف أو في معنى جواب الأمر ، وهو{ اتقوا} ، والمعنى:إن تتقوها ، لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة . ودخلت نون التوكيد الثقيلة ؛ لأن جواب الأمر في معنى الأمر ، ونون التوكيد تدخل الأمر فتؤكد جوابه ، وذكرت الصلة في الموصول للإشارة إلى السبب ، وهو الظلم الذي يعم ، ولا يخص ، وأظهر الظلم ليتبين أنه السبب ، وأن السبب في عموم الفتن أو الذنوب ، أو الفساد في الأمة بعمل الطاغين ، وعدم الخصوصية أن ظلم الخاصة تكون نتيجته على الجميع ؛ لأنه لا يوجد من ينهاهم ، وقد أمروا بأن ينهوهم بل أن يحاجزوا بينهم وبين الظلم كما أشرنا ، وكما روينا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم:( لا تؤخذ العامة بظلم الخاصة إلا إذا رأوه ولم ينكروه ) ، فلا يعترض على عموم الفتن بقوله تعالى:{ ولا تزر وازرة وزر أخرى ( 164 )} ( الأنعام ) فالعامة لا يؤخذون بوزر غيرهم إنما يؤخذون بتقصيرهم ، وإنه إذا كان الفساد من بعضهم ، فأثر الفساد يعم ، فإذا شاع العبث ، ونتأ برأسه غير مبال بشيء فإن الجماعة كلها مسئولة ؛ لأنها لم تأخذ على يد من يدعو إلى الشر ، ويعلنه جهارا ، ورضيت من المتسلطين ما يفعلون أو لم يستنكروا ، ولم يقاطعوا أعمال المنكرين ، ومن يدفعونهم أو يشجعونهم ، فكانوا وهم على سواء . ولا حول ولا قوة إلا بالله .
وإنه لا يكفي أن يكون الأخيار غير مرتكين ما يرتكبه الأشرار ، بل إنه يجب أن يقوموا بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وإن الفتنة الكبرى التي وقعت بعد مقتل الإمام عثمان – رضي الله عنه – وظهور البغي السافر في عهد إمام الهدى علي وقعت آثاره على المؤمنين ، ولنترك الكلمة للإمام الزمخشري في تفسيره فقد قال ناقلا:( روي أن الزبير قال:نزلت فينا وقرأناها زمانا ، وما نرانا من أهلها ، فإذا نحن المعنيون بها ) . وعن السدي:نزلت في أهل بدر فاقتتلوا يوم الحلبة ، وروي أن الزبير كان يساير النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوما إذا أقبل علي – رضي الله عنه – فضحك إليه الزبير ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:( كيف حبك لعلي ) ؟ فقال:يا رسول الله بأبي وأمي إني أحبه كحبي لولدي أو أشد حبا . فقال:( فكيف أنت إذا سرت إليه تقاتله ) ( 1 ){[1163]} .
ولقد كان ما انتهى بأن ذهبت الشورى في الإيلام ، وصارت ملكا عضوضا ، صالحا أو طالحا ، ولكن فقد الحكم قوة الأمة ، وأهمل قوله تعالى:{ وأمرهم شورى بينهم . . . . . . . . . . . ( 38 )} ( الشورى ) .
ولم يبق إلا أن نعلم أن الله أنذرنا بعقابه فقال:{ واعلموا أن الله شديد العقاب وإنا قد علمناه ، ولم نرتدع عن غينا ، ونسلك طريق ربنا ، علمناه وآمنا به ، ورأينا بعضه ، وهو عقاب الدنيا ، فتفرق جمعنا ، وتقطع الأمر بيننا ، وتحكم الأعداء فينا وصرنا نهبا مقسوما ، وصار أكثر حكامنا يرتمون في أحضان من لا يرجون للإسلام وقارا ، ويفسدون تفكير المسلمين ، وما يلقانا يوم القيامة أشد ولا ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .