ثمّ تشير إِلى عاقبة السوء لمن يرفض دعوة الله ورسوله إِلى الحياة فتقول: ( واتقوا فتنة لا تصبينّ الذين ظلموا منكم خاصّة ) .
وكلمة ( فتنة ) استعملت في القرآن المجيد بمعان مختلفة ،فقد جاءت تارةً بمعنى الاختبار والامتحان ،وتارة بمعنى البلاء والعذاب والمصيبة ،وهي في الأصل بمعنى إدخال الذهب في بوتقة النّار ليتميز جيده من رديئه ،ثمّ استعملت بمعنى الاختبارات التي تكشف الصفات الباطنية للإِنسان ،واستحدثت في الإِبتلاء والجزاء الذي يبعث الصفاء في روح الإِنسان ويطهّره من شوائب الذنوب ،وأمّا في هذه الآية فإنّ كلمة ( فتنة ) بمعنى البلاء والمصائب الاجتماعية التي يصاب بها الجميع فيحترق فيها الأخضر مع اليابس .
وفي الحقيقة فشأن الحوادث الاجتماعية هو هكذا ،فإذا ما توانى مجتمع ما عن أداء رسالته ،وانهارت القوانين على أثر ذلك ،وانعدم الأمن ،فإنّ نار الفتنة ستحرق الأبرار مع الأشرار ،وهذا هو الخطر الذي يحذر الله تبارك وتعالى منه ويحذر في هذه الآية المجتمعات البشرية كلّها .
ومفهوم الآية هنا هو أنّ أفراد المجتمع مسؤولين عن أداء وظائفهم ،وكذلك فهم مسؤولون عن حثّ الآخرين لأداء وظائفهم أيضاً ،لأنّ الاختلاف والتشتت في قضايا المجتمع يؤدي إِلى انهياره ،ويتضرر بذلك الجميع ،فلا يصحّ أن يقول أحد بأنني أؤدي رسالتي الاجتماعية ولا علاقة لي بالآثار السلبية الناجمة عن عدم أداء الآخرين لواجباتهم ،لأنّ آثار القضايا الاجتماعية ليست فردية ولا شخصية .
وهذا الموضوع يشبه تماماً ما لو احتجنا لصد هجوم الأعداء إِلى مئة ألف مقاتل ،فإذا قام خمسون ألف مقاتل بأداء وظائفهم فمن اليقين أنّهم سيخسرون عند منازلتهم العدو ،وهذا الانكسار سيشمل الذين أدوا وظائفهم والذين تقاعسوا عن أدائها وهذه هي خصوصية المسائل الاجتماعية .
ويمكن إيضاح هذه الحقيقة بصورة أجلى وهي: أنّ الأخيار من أبناء المجتمع مسؤولون في التصدّي للأشرار لأنّهم لو اختاروا السكوت فسيشاركون أُولئك مصيرهم عند الله كما ورد ذلك في حديث مشهور عن النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) حيث قال: ( إنّ الله عزّ وجلّ لا يعذب العامّة بعمل الخاصّة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكرون ،فإذا فعلوا ذلك عذب الله الخاصّة والعامّة ){[1543]} .
ويتّضح ممّا قلناه أنّ هذا الحكم يصدق في مجال الجزاء الإِلهي في الدنيا والآخرة ،وكذلك في مجال النتائج وآثار الأعمال الجماعية{[1544]} .
وتُختتم الآية بلغة التهديد فتقول: ( واعلموا أنّ الله شديد العقاب ) لئلا يصاب هؤلاء بالغفلة بسبب الألطاف والرحمة الإِلهية وينسوا شدّة الجزاء الإِلهي ،فتأكلهم الفتن وتحيط بهم من كل جانب ،كما أحاطت المجتمع الإِسلامي ،وأرجعته القهقرى بسبب نسيانه السنن والقوانين الإِلهية .
فنظرة قصيرة إِلى مجتمعنا الإِسلامي في زماننا الحاضر والانكسارات التي أصابته أمام أعدائه ،والفتن الكثيرة ،كالاستعمار والصهيونية ،والإِلحاد والمادية ،والفساد الخلقي وتشتت العوائل وسقوط شبابه في وديان الفساد ،والتخلف العلمي ،كل ذلك يجسد مضمون الآية ،وكيف أنّ تلك الفتن أصابت كل صغير وكبير ،وكل عالم وجاهل ،وسيستمر كل ذلك حتى اليوم الذي تتحرك فيه الروح الاجتماعية للمسلمين ،ويهتم الجميع بصلاح المجتمع ولا يتخلفوا عن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر .