التّفسير
دعوة للحياة:
تتابع هذه الآيات دعوة المسلمين المتقدمة للعلم والعمل والطاعة والتسليم لكنّها تتابع الهدف ذاته عن طريق آخر ،فتقول ابتداء: ( يا أيّها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم ) .
فهذه الآية تقول بصراحة: إنّ دعوة الإِسلام هي دعوة للعيش والحياة ،الحياة المعنوية ،الحياة المادية ،الحياة الثقافية ،الحياة الاقتصادية ،الحياة السياسية ،الحياة الأخلاقية والاجتماعية ،وأخيراً الحياة والعيش بالمعنى الصحيح على جميع الأصعدة ،وهذه أقصر وأجمع عبارة عن الإِسلام ورسالته الخالدة ،إذا سأل أحد عن أهداف الإِسلام ،وما يمكن أن يقدمه ،فنقول جملة قصيرة: إنّ هدفه هو الحياة على جميع الأصعدة ،هذا ما يقدمه لنا الإسلام .
ترى هل كان الناس موتى قبل بزوغ الإِسلام ونزول القرآن ليدعوهم القرآن إِلى الحياة ...؟
وجواب هذا التساؤل: نعم ،فقد كانوا موتى وفاقدي الحياة بمعناها القرآني ،لأنّ الحياة ذات مراحل مختلفة أشار إِلى جميعها القرآن الكريم .
فتارةً تأتي بمعنى ( الحياة النباتية ) كما يقول القرآن: ( اعلموا أنّ الله يحيى الأرض بعد موتها ){[1539]} .
وتارةً تأتي بمعنى ( الحياة الحيوانية ) مثل: ( إنّ الذي أحياها لمحي الموتى ){[1540]} .
وتارةً بمعنى ( الحياة الفكرية والعقلية ) مثل: ( أوَ مَن كان ميتاً فأحييناه ){[1541]} .
وتارة بمعنى «الحياة الخالدة في العالم الآخر ) مثل: ( يا ليتني قدمت لحياتي ){[1542]} .
وتارة بمعنى ( العالم والقادر بلا حد ولا نهاية ) كما نقول عن الله: ( هو الحي الذي لا يموت ) .
وبالنظر إِلى هذه الأقسام التي ذكرناها نعرف أنّ الناس في الجاهلية كانوا يعيشون الحياة الحيوانية والمادية ،وكانوا بعيدين عن الحياة الإِنسانية والمعنوية والعقلية ،فجاء القرآن ليدعوهم إِلى الحياة .
ومن هنا نعلم أنّ من يضع الدين في قوالب جامدة لا روح فيها بعيداً عن مجالات الحياة ،ويختزله في مسائل فكرية واجتماعية صرفة فقد جانب الصواب كثيراً ،لأنّ الدين الصحيح هو الذي يبعث الحركة في كل جوانب الحياة ،ويحيي الفكر والثقافة والإِحساس بالمسؤولية ،ويوجد التكامل والرّقي والوحدة والتآلف ،فهو إذاً يبعث الحياة في البشرية بكل معنى الكلمة .
وبذلك تتّضح هذه الحقيقة أيضاً وهي أن الذين فسّروا الآية بمعنى واحد هو الجهاد أو الإيمان أو القرآن أو الجنّة ،واعتبروا كل واحد من هذه الأُمور هو العامل الوحيد للحياة في الآية المباركة ،هؤلاء في الحقيقة حددوا مفهوم الآية ،لأنّه يشتمل على كل ذلك وأكثر حيث يندرج ، ضمن مفهوم الآيةكل شيء ،وكل فكر ،وكل قانون يبعث الروح في جانب من جوانب الحياة .
ثمّ يقول تعالى: ( واعلموا أنّ الله يحول بين المرء وقلبه وأنّه إليه تحشرون ) .
إنّ المقصود بالقلب هناكما ذكرنا سابقاًالروح والعقل ،أمّا كيف يحول الله بين المرء وقلبه ؟فقد ذكروا لذلك احتمالات مختلفة ....
فتارةً قيل: إنّه إشارة لشدّة قرب الله من عباده ،فكأنّ الله في داخل روح العبد وجسمه ،وكما يقول القرآن الكريم: ( ونحن أقرب إليه من حبل الوريد ) .
وقيل: إشارة إِلى أنّ تقلب القلوب والأفكار هو بيد الله ،كما نقرأ في الدعاء: ( يا مقلب القلوب والأبصار ) .
وقيل: إنّ المقصود هو أنّ الانسان لولا اللطف الإلهي غير قادر على معرفة الحق من الباطل .
وقيل أيضاً: إنّ المقصود هو أنّه ما دام للناس فرصة فينبغي عليهم أداء الطاعات وأعمال الخير ،لأنّ الله قد يحول بواسطة الموت بين المرء وقلبه .
ويمكن بنظرة شاملة جمع كل التفاسير في تفسير واحد ،هو أنّ الله عزّ وجلّ حاضر وناظر ومهيمن على كل المخلوقات .فإنّ الموت والحياة والعلم والقدرة والأمن والسكينة والتوفيق والسعادة ،كلّها بيديه وتحت قدرته ،فلا يمكن للإِنسان كتمان أمر ما عنه ،أو أن يعمل أمراً بدون توفيقه ،وليس من اللائق التوجه لغيره وسؤال من سواه .لأنّه مالك كل شيء والمحيط بجميع وجود الإِنسان .وارتباط هذه الجُمل مع سابقتها من جهة أنّه لو دعا النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) الناس إِلى الحياة ،فذلك لأنّ الذي أرسله هو مالك الحياة والموت والعقل والهداية ومالك كل شي .
وللتأكيد على هذا الموضوع فإنّ الآية تريد أن تقول: إنّكم لستم اليوم في دائرة قدرته فحسب ،بل ستذهبون إليه في العالم الآخر ،فأنتم في محضره وتحت قدرته هنا وهناك .