{يَحُولُ}: الحيلولة: التخلل وسطاً .
{وَقَلْبِهِ}: «القلب: العضو المعروف .ويستعمل كثيراً في القرآن الكريم في الأمر الذي يدرك به الإنسان ،ويظهر به أحكام عواطفه الباطنة كالحب والبغض والخوف والرجاء والتمني والقلق ..ونحو ذلك .فالقلب هو الذي يقضي ويحكم ،وهو الذي يحب شيئاً ويبغض آخر ،وهو الذي يخاف ويرجو ويتمنى ،ويسرّ ويحزن ،وهو في الحقيقة: النفس الإنسانية تفعل بما جهزت به من القوى والعواطف الباطنة »
الإيمان موقفٌ للحياة
{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ} وهذا هو النداء الثاني للمؤمنين ،الذي يريد أن يثير فيهم روح الإيمان ومعناه وحركته في داخلهم ،ليوحي إليهم بأنه ليس مجرّد فكرٍ مجرَّد ،بل هو موقفٌ للحياة .{اسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} ،فإن ذلك هو المظهر الحيّ للإيمان ،في ما يفرضه من الاستسلام لله في ما يأمر به أو ينهى عنه ،والطاعة لرسوله باعتبار أنها المظهر لطاعة الله{إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} ،لأن الإسلام هو دعوةٌ إلى الحياة ،في ما أراده للإنسان من حركةٍ ووحيٍ ونموٍّ وانطلاق ،من خلال مفاهيمه الواسعة الشاملة التي تفتح آفاقه على الكون كله ،ليكون ساحةً لفكره ،ومنطلقاً لعمله ،وتجربةً لمسؤوليته ،ممّا يجعل منه طاقةً حيّةً متحركةً في أكثر من اتّجاه ،ومن خلال شريعته التي تنظّم له حياته في ما يأكل ويشرب ويستمتع ،وفي ما يعيش من علاقاتٍ ،فيتحقق له التوازن في ذلك كله ،فلا تنحرف حياته إلى خط السلبيّة التي تهمل كل شيءٍ حولها ،ولا تتطرف في خط الإيجابية حتى تغلق على نفسها كل بابٍ للحرّية ...وهكذا يمتد التوازن في ما بين النزعة المادية والنزعة الروحية ،إلى الانسجام بين الشخصية الفردية والشخصية الاجتماعية ،فيحسب لكل شيءٍ حسابه ،ويضع كل شيءٍ في موضعه على أساس الحكمة والاتزان ،وذلك هو معنى الحياة في حركة الشخصية ،لأن الإخلال بالتوازن يؤدّي إلى الانحراف في اتجاه الهلاك ،في ما يثيره من الارتباك في حركة المصير .
أهداف الإسلام للإنسان هي أهداف الحياة عينها
أمّا أهداف الإسلام في ما يريده للإنسان من أهداف وجوده ،فإنّها أهداف الحياة في امتداد المعرفة وعمقها ،في كلّ ما تختزنه من أسرار وتثيره من قضايا وتواجهه من أحداث ،وفي ما تستوعبه من معلومات ،حتى لتدعوه إلى الإحاطة بكل شيءٍ من حوله ،فلا يغيب عنه شيء في ذلك كله ،وفي معنى الحرية التي تجعل للإرادة حريتها ،بعيداً عن الضغوط الداخلية أو الخارجية ،في انطلاقةٍ شجاعةٍ تتمرّد على كل نوازعها وتحدياتها وأوضاعها ،وفي حركة الرسالة في حياته ،ليواجه الحياة من موقع الرسالة التي تتطلع إلى كل زاويةٍ من زواياها ،لتحرك فيها القيم الروحية التي تبني للإنسان إنسانيته ،وتحقق للحياة معناها ،فلا تتجمّد حياته عند حدود حاجاته ،بل تتحرك إلى البعيد البعيد في نطاق القضايا الكبيرة من أهدافه ...وهكذا تكون التضحية بالحياة لوناً من ألوان حركة الحياة ،لأن الروح تحيى في أهدافها ،كما يحيى الجسد في حاجاته .وهذا ما أراد القرآن الكريم الإيحاء به عندما اعتبر العلم والإيمان والجهاد والشهادة مظهراً من مظاهر الحياة ،ولذلك كانت الاستجابة إلى الله وإلى الرسول استجابةً للجانب الحي من حركة الرسالة في الحياة .وهذا ما ينبغي لنا أن نستوحيه في ما نلتقي به من أحكام الشريعة وأسرارها وقضاياها ،لنكتشففي ذلك كلهكيف تستوعب الشريعة الحياة ،وكيف تخضع الحياة لدعوة الشريعة في ما تريد أن تحقّقه من أهداف ،أو تواجهه من مشاكل وحلول .
الله يحول بين المرء وقلبه
{وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} .ربما كان ذلك كنايةً عن الهيمنة الإلهية على الإنسان ،فله السلطة عليه بما لا يملكه من نفسه ،فهو قادر على أن يغيّر له فكره في أي جانب من الجوانب ،ويحول بينه وبينه .وهذا من أوضح مظاهر السلطة والقدرة ،لأن أعلى مظاهر القدرة هي السيطرة على الداخل الذي يختصّ أمره بالإنسان نفسه ،لأنّ الناسعادةًلا يملكون الضّغط إلاّ على الجانب الخارجي من الإنسان ،وهو الجسد ،أمّا الفكر ،فلا يملك الناس الضغط عليه إلا من خلال الوسائل العادية التي لا تخرج الإنسان عن اختياره .فإذا كان الله يملك عليه ذلك ،فمعناه أنه أقرب إليه من ذاته وأنه يعرف منه ما لا يعرفههومن نفسه ،فلا بدّ له من أن يراقبه ويخافه ويراعيه في كل أموره ...{وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} في يوم القيامة ،فيحاسبكم بما اطّلع عليه من أعمالكم ،مما لا تملكون الحجّة فيه على التخلّص ،لأنه المطّلع على الجانب الخفيّ منها ،وهو جانب النية التي تطبع العمل بطابعها من خيرٍ أو شرٍ .