وتقول الآية بعدها إن الله لا يمتنع من دعوة هؤلاء إن كانوا صادقين في طلبهم وعلى استعداد لتقبل الحق: ( ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم ) .
وقد ورد في الرّوايات أنّ بعض عبدة الأصنام جاءوا النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) وقالوا: إذا أخرجت لنا جدنا الأكبر ( قصي بن كلاب ) حيّاً من قبره ،وشهد لك بالنبوة ،فسوف نسلم جميعاً !فنزلت الآية لتقول: إنّه لو كان حديثهم صادقاً لفعل الله ذلك لهم بواسطة المعجزة ،لكنّهم يكذبون ويأتون بأعذار واهية ،بهدف التخلص من الإِذعان لدعوة الحق ....
ويقول تعالى: ( ولو أسمعهم لتولوا وهو معرضون ) .
فالذين سمعوا دعوة الحق كثيراً ،وبلغت آذانهم آيات القرآن ،وفهموا مضامينها العالية ،لكنّهم أنكروها بسبب عتوهم وعصبيّتهم ،فهم غير مؤهلين للهداية لما اقترفت أيديهم ،ولا شأن بعدئذ لله ورسوله بهم ،فهم في ظلام دامس وضلال بهيم .
كما أنّ هذه الآية تعد جواباً قاطعاً للقائلين بمدرسة الجبر ،لأنّها تقرر بأن يكمن في الانسان نفسه وأنّ الله يعامل الناس بما يبدونه من أنفسهم من استعداد وقابلية في طريق الهداية .
ملاحظتان:
1«ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم »
لقد حاول بعض الناشئة عمل قياس منطقي من هذه الآية والخروج منه بنتيجة لصالحهم ،فقالوا ،إنّ القرآن يقول في الآية: ( ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم ) .وقال أيضاً: ( ولو أسمعهم لتولّوا وهم معرضون ) .فيمكن الاستنتاج من هاتين الجملتين الجملة التّالية وهي: لو علم الله فيهم خيراً فهم سيعرضون .وهذا الاستنتاج خطأ محض .
وقد أخطأ هؤلاء لأنّ معنى جملة: ( ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم ) .في قسمها الأوّل هو: لو كان لهؤلاء قابلية فسيوصل الحق لأسماعهم ،ولكن القسم الثّاني معناه أن هؤلاء إذا لم تتهيأ لهم القابلية للهداية فسوف لن يستجيبوا وسوف يعرضون ....
والنتيجة أن الجملة المذكورة آنفاً وردت في الآية بمعنيين مختلفين ،وعلى هذا لا يمكن تأليف قياس منطقي منهما ...{[1537]} ( فتأمل ) .
وهذه المسألة تشبه من يقول: إنّني لو كنت أعتقد بأنّ فلاناً يستجيب لدعوتي لدعوته ،لكنّه في الحال الحاضر إذا دعوته فسوف لن يستجيب ،ولذلك فسوف لن أدعوه ....
2لاستماع الحق مراحل
إنّ الإِنسان قد يسمع أحياناً ألفاظاً وعبارات دون التفكير في مضامينها ،إلاّ أنّ بعضاً لفرط لجاجتهم ،كانوا يرفضون حتى هذا القدر من السمع ،كما يقول عنهم القرآن ( وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلّكم تغلبون ){[1538]} .
وتارةً يقبل الإِنسان باستماع الأحاديث ،لكنّه لا يقرر أبداً العمل بها ،كالمنافقين الذين ورد ذكرهم في الآية ( 16 ) من سورة محمّد( صلى الله عليه وآله وسلم ): ( ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفاً ) .
وقد يصل وضع هؤلاء أعلى مراحل الخطر ،إذ يُسلبون القدرة على معرفة الخبيث والطيب ،وحتى إذا استمعوا الحديث الحق لا يكون بإِمكانهم استيعابه وهضمه .
والقرآن يقول عن هذه الطوائف الثلاث ،إنّ هؤلاء في واقعهم صم بكم ،لأن الذي يسمع في الحقيقة يجب عليه الإِدراك والتفكير والعزم على العمل بإخلاص .
وكم من أناس في عصرنا وزمننا الحاضر عندما يسمعون آيات القرآن يتفاعلون معها بشكل ملفت للنظر ،لكنّهم في العمل لا يتطابقون بأي شكل مع مضمون القرآن الكريم .