/م20
{ ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم} أي ولو علم الله فيهم استعدادا للإيمان والهدى ببقية من نور الفطرة ، لم تطفئها مفاسد التربية وسوء القدرة ، لأسمعهم بتوفيقه وعنايته الكتاب والحكمة سماع تفقه وتدبر ، ولكنه علم أنه لا خير فيهم لأنهم ممن أحاطت بهم خطاياهم وختم على قلوبهم{ ولو أسمعهم} وقد علم أن لا خير فيهم{ لتولّوا} عن القبول والإذعان لما فهموا{ وهم معرضون} والحال أنهم معرضون من قبل ذلك بقلوبهم عن قبوله والعمل به- كما هو مدلول الجملة الحالية- كراهة وعنادا للداعي إليه ولأهله ، لا توليا عارضا موقتا ، وفرق عظيم بين التولي العارض لصارف موقت وتولي الإعراض والكراهة الذي فقد صاحبه الاستعداد للحق وقبول الخير فقدا تاما .
ومن اضطراب في فهم الجمع بين التولي والإعراض فقد جهل معنى الجملة الحالية الفارق بينها وبين الحال المفردة كما بينه الإمام عبد القاهر في دلائل الإعجاز ، والآية نص في أنه تعالى لم يسمعهم أي لم يوفقهم للسماع النافع لأن الباعث عليه هو ما في الفطرة من نور الحق المحبب للنفس في الخير ، وقد ، فقدوا ذلك بإفسادهم لفطرتهم ، وإطفائهم لنور الاستعداد للحق والخير الذي يذكيه سماع الحكمة والموعظة الحسنة ، فصاروا ممن وصفهم في سورة المطففين المكية بقوله:{ كلا بل ران على قولهم ما كانوا يكسبون} [ المطففين:14] وقوله في سورة البقرة{ بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} [ البقرة:81] ووصفهم فيها بقوله:{ صم بكم عمي فهم لا يرجعون} [ البقرة:18] وضرب المثل لسماعهم بقوله في الآية الأخرى منها{ ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون} [ البقرة:171] يعني أنهم كسارحة النعم تسمع صراخ الناعق فترفع رؤوسها ولكنها لا تفهم له معنى فإذا سكت عادت إلى رعيها كما قال ابن دريد في مقصورته:
نحن ولا كفران لله كما*** قد قيل في السارب أخلى فارتعى
إذا أحس نبأة ريع وإن*** تطامنت عنه تمادى ولها
وفي الآيتين 42 و43 من سورة يس ( 10 ) إيئاس النبي صلى الله عليه وسلم من إسماع هؤلاء الصم وهداية هؤلاء العمي وقفى على ذلك بقوله تعالى:{ إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون} [ يونس:44] فأمثال هذه الآيات تحثو التراب في في من يزعم أن الآية تدل على الجبر وعدم اختيار العبد في كفره وإيمانه ، كما أنها تسجل الجهل باللغة على من يزعم أن فيها إشكالا في النظم بجواز تقدير:ولو أسمعهم لعلمه بأن فيهم خيرا لتولوا وهم معرضون عن الإيمان والهدى ، ونقول إن تقديره هذا هو الباطل لأنه نقيض ما أفادته"لو "من أنه علم أنه لا خير فيهم فهو لا ينتج إلا باطلا ، وعفا الله عمن صوروا هذا الإشكال الوهمي بالاصطلاح المنطقي الفلسفي وأطالوا في الرد عليه من تلك الطرق الاصطلاحية الشاغلة عن كتاب الله تعالى .
ألم يك خيرا لهم من هذه الحذلقة اللفظية الصارفة عن القرآن توجيه قلب سامعه لمحاسبة نفسه على هذا السماع ودرجة حظه منه ؟ فإن للسماع درجات باعتبار ما يطالبه الله تعالى به من الاهتداء بكتابه:أسفلها أن يعمد من يتلى عليه القرآن أن لا يسمعه مبارزة له بالعداوة من أول وهلة خوفا من سلطانه على القلوب أن يغلبهم عليها كالذين قال الله فيهم{ وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون} [ فصلت:26] ويليها من يستمع وهو لا ينوي أن يفهم ويعلم كالمنافقين المشار إليهم في آية سورة القتال [ الآية:17] وذكرت في هذا السياق- ويليها من يستمع لأجل التماس شبهة للطعن والاعتراض ، كما كان يفعل المعاندون من المشركين وأهل الكتاب ، وكما يفعل في كل وقت مرتزقة دعاة النصرانية ، وغيرهم إذا استمعوا للقرآن أو نظروا فيه- ويليها أن يسمع ليفهم ويعلم ثم يحكم للكلام أو عليه .
وهذه الدرجات كلها لغير المؤمنين به والمنصف منهم الفريق الأخير وكم آمن منهم من تأمل وفهم:نظر طبيب إفرنسي معاصر في ترجمة القرآن فرأى إن كل ما يتعلق بالطب والمحافظة على الصحة منه- كالطهارة والاعتدال وعدم الإسراف- موافق لأحدث المسائل التي استقر عليها رأي الأطباء في هذا العصر ، فرغبه ذلك في تأمله كله فأسلم ...ونظر ( مستر براون ) وهو ربّان بارج من الإنكليز في ترجمة مستر سايل الإنكليزية له فاستقصى فيه الكلام عن البحار والرياح فظن أن النبي صلى الله عليه وسلم كان من أكبر رباني الملاحين فسأل عنه فقيل له أنه لم ير البحر قط وكان مع ذلك أمياً لم يقرأ كتابا ، ولا تلقّى عن أحد درسا ، ( قال ) فعلمت أن هذا كان بوحي من الله لأنه حقائق لم يعلمها من اختباره بنفسه ، ولا بتلقيه عن غيره من المختبرين ، وقد أسلم وتعلم العربية رحمه الله تعالى .
وأما المسلمون في هذه البلاد فأكثرهم اليوم يسمعون القارئ يتلو القرآن فلا يستمعون له ولا يشعرون بأنهم في حاجة إلى سماعه ، وأكثر الذين يستمعون له وينصتون يقصدون بذلك التلذذ بتجويده وتوقيع التلاوة على قواعد النغمات ، ومنهم من يقصد بسماعه التبرك فقط ، ومنهم من يحضر الحفاظ لتلاوته عنده في ليالي رمضان لأن ذلك من شعائر أكابر الوجهاء ، وإنما تكون التلاوة في حجرة البواب أو غيره من الخدم ، وإذا سمعت بعض السامعين للتلاوة يقول:الله الله ، أو غير ذلك من كلمة مفردة أو مركبة أو صوت لا معنى له فإنما ينطق به إعجابا بنغمة التالي ، حتى إنهم لينطقون عند سماعه ببعض الأصوات التي تخرج من أفواههم عند سماع الغناء .
دعيت مرة إلى حفلة عرس فإذا أنا بقارئ يتلو بالنغم والتطريب وبعض الحاضرين يهتز وينطق بتلك الحروف المعتادة في مجالس الغناء ويستعيدون بعض الجمل أو الآيات كما يستعيدون المغنى على سواء ، وكان القارئ يتلو تلك الوصايا الصادعة من سورة الإسراء وما يتلوها من وصف القرآن وهدايته ومواعظه وتوبيخ المعرضين عنه كقوله تعالى:{ ولقد صرفنا في هذا القرآن ليذكروا وما يزيدهم إلا نفورا} [ الإسراء:41] إلى قوله:{ وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا نحن أعلم بما يستمعون به إذ يستمعون إليك وإذ هم نجوى إذ يقول الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا} [ الإسراء:45- 47] .
فلما سمعت مكاء أولئك السفهاء وأصواتهم المنكرة عند سماع هذه الحكم الروائع ، والمواعظ الصوادع ، لم أملك نفسي أن صحت فيهم صيحة مزعجة ووقفت على الكرسي الذي كنت جالسا عليه ووبختهم توبيخا شديدا مبينا لهم ما يجب من الأدب والخشوع والخشية عند سماع القرآن ولاسيما أمثال هذه الآيات ، وتلوت عليهم قوله تعالى:{ لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون} [ الحشر:21] فسكنوا وسكتوا إلا واحدا منهم أخذته العزة بالإثم ، ولكنه صار يتظاهر بأنه يهتز متخشعا ، ويهمهم معتبرا متدبرا .
وليعلم القارئ أن لفهم الكلام نفسه درجات فمن الناس من لا يفهم من الكلام إلا مدلولات الألفاظ على ما فيها من إجمال وإبهام ، بحسب ما تفسر به المفردات في معاجم اللغة ، أو مع المركبات بحسب قواعد النحو والبيان ، ككون لفظي الصم والبكم هنا من مجاز الاستعارة مثلا ، وهذا الفهم قاصر لا يتسع عقل صاحبه للتدبر والتذكر المطلوب ، ومنهم من يكون فهمه تفصيليا ينتقل من الكليات إلى الجزئيات ، ويعدو المفهومات الذهنية إلى المصدقات ، ولكنه يجعلها بمعزل عن نفسه ، ويتصور أن الكلام كله لغيره وفي غيره ، بأن يقول هذه الآية نزلت في الكافرين أو المنافقين ، لا في أمثالي من المؤمنين ، وإن كان متصفا بما تنهى عنه وتتوعد عليه من صفاتهم وأعمالهم ، فصاحبها يصدق عليه بوجه ما أنه من الذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون ، وإنما الدرجة العليا للسماع أن تسمع فتفقه وتعقل وتتدبر وتعمل ، حتى لا تقول يوم القيامة{ لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير} [ الملك:7] .