/م153
فقال:
{ يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء} بأن ينزل عليهم منها محررا بخط سماوي يشهد أنك رسول الله إليهم ، أو ينزل باسم جماعتهم ، أو أسماء أفراد معينين من أحبارهم ، وهم الذين اقترحوا ذلك-أقوال ، وقيل أرادوا أن ينزل عليهم كتاب شريعة هذا النبي جملة واحدة كالألواح التي جاء بها موسى .وفي هذا أن اليهود طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن ينزل عليهم شريعته كلها جملة واحدة هو كالتوراة .والظاهر أن هذا مما كان يغش به اليهود المسلمين ، فالمعروف في التوراة التي عندهم أن الذي جاء به موسى من عند الله تعالى جملة واحدة هو الوصايا العشر منقوشة في لوحين جاء بهما في المرة الأولى فلما رآهم قد عبدوا العجل المصنوع من الحلي في غيبته غضب وألقى اللوحين فكسرهما ، ثم أمره الله تعالى بأن ينحت لوحين آخرين وكتب له فيهما تلك الوصايا ( راجع الفصل 24 والفصل 31 من سفر الخروج ) وأما سائر الأحكام فقد كانت توحى إلى موسى صلى الله عليه وسلم في أوقات متعاقبة ، ولم تنزل عليه مكتوبة جملة واحدة .
يقول الله تعالى يسألك أهل الكتاب هذا على سبيل التعنت والتعجيز ولا بقصد طلب الحجة لأجل الاقتناع ، وإن تعجب أيها الرسول من سؤالهم وتستنكره وتستكبر عليهم ،{ فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة} سأله ذلك سلف هؤلاء الذين يسألونك أن تنزل عليهم كتابا من السماء ، وإنما الخلف والسلف في الصفات والأخلاق سواء ، لأن الأبناء ترث الآباء ، والإرث يكون على أشده وأتمه في أمثال هؤلاء اليهود الذين يأبون مصاهرة الغرباء ، على أن سنة القرآن في مخاطبة الأمم والحكاية عنها معروفة مما تقدم في شأن اليهود كغيرهم .وهو أن الأمة لتكافلها وتوارثها واتباع خلفها لسلفها تعد كالشخص الواحد فينسب إلى المتأخرين منها ما فعله المتقدمون .ويمكن جريان الكلام هنا على طريق الحقيقة بصرف النظر عن هذه السنة .وذلك أن كلا من السؤالين مسند إلى جنس أهل الكتاب وهو لا يقتضي أن يكون الأفراد الذين أسند إليهم السؤال الأول عين الأفراد الذين أسند إليهم السؤال الثاني .
إن سؤال هؤلاء القوم رؤية الله تعالى جهرة أكبر وأعظم من سؤالهم النبي صلى الله عليه وسلم أن ينزل عليهم كتابا من السماء ، وكل من السؤالين يدل على جهلهم أو عنادهم ، أما سؤال إنزال الكتاب فهو يدل على أحد أمرين:إما أنهم لا يفهمون معنى النبوة والرسالة على كثرة ما ظهر فيهم من الأنبياء والرسل ، ولا يميزون بين الآيات الصحيحة التي يؤيد الله بها رسله وبين سائر الأمور المستغربة كحيل السحر والشعوذة لمخالفتها للعادة ، وقد بينت لهم أنه يقوم فيهم أنبياء كذبة وأن النبي يعرف بدعوته إلى التوحيد والحق والخير لا بمجرد آية أو أعجوبة يعلمها ( كما نص على ذلك في أول الثالث عشر من سفر تثنية الاشتراع وغيره ) وإما أنهم معاندون يقترحون تعجيزا ومرواغة .وأيا ما قصدوا من هاتين الأمرين فلا فائدة في إجابتهم إلى ما سألوا كما قال تعالى:{ ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا أن هذا إلا سحر مبين} [ الأنعام:8] .
وأما سؤالهم رؤية الله جهرة أي عيانا كما يرى بعضهم بعضا فهو أدل على جهلهم وكفرهم بالله تعالى لأنهم ظنوا أنه جسم محدود تدركه الأبصار ، وتحيط به أشعة الأحداق ، وقد عوقبوا على جهلهم هذا{ فأخذتهم الصاعقة بظلمهم} إذ شبهوا ربهم بأنفسهم إلى ما فوق مرتبتها وقدرها{ وما قدروا الله حق قدره} [ الزمر:27] .والصاعقة نار جوية ، وتشتغل باتحاد الكهرباء الإيجابية بالسلبية ، وتقدم تفسير مثل هذا في سورة البقرة ( راجع آية 55{ وإذ قتلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نر الله جهرة} في الجزء الأول ) وفيه أن هذه الواقعة معروفة في كتبهم وفيها التعبير بالنار بدل الصاعقة .وربما يظن الظان أنها نار خلقها الله تعالى من العدم .ولكن القرآن بين لنا أنها من الصواعق المعتادة أرسلها الله عليهم عند ظلمهم هذا ، ولا يمنع ذلك أن تكون حدثت بأسبابها ، والله تعالى يوفق أقدارا لأقدار .
{ ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات} المثبتة للتوحيد النافية للشرك على يد موسى عليه الصلاة والسلام .وتقدم بيان هذا في تفسير آية ( 51-92 ) من سورة البقرة:{ فعفونا عن ذلك} الذنب الذي هو اتخاذ العجل حين تابوا منه تلك التوبة النصوح التي قتلوا بها أنفسهم كما بين الله لنا ذلك في سورة البقرة ( 1:51-54 ) فراجعه وما قبله في الجزء الأول{ وأتينا موسى سلطانا مبينا} أي سلطة ظاهرة بما أخضعناهم له على تمردهم وعصيانهم ، حتى في قتل أنفسهم .