/م109
{ قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين ( 114 )} أي لما علم عيسى عليه السلام صحة قصدهم وأنهم لا يريدون تعجيزا ولا تجربة دعا الله تعالى بهذا الدعاء ، فناداه باسم الذات الجامع لمعنى الألوهية والقدرة والحكمة والرحمة وغير ذلك فقال:«اللهم » ومعناه يا الله ، ثم باسم الرب الدال على معنى الملك والتدبير والتربية والإحسان خاصة ، فقال:«ربنا » أي يا ربنا ومالكنا كلنا ومتولي أمورنا لأمر بينا ، أنزل علينا مائدة سماوية ، جثمانية أو ملكوتية ، يراها هؤلاء المقترحون بأبصارهم ، وتتغذى بها أبدانهم أو أرواحهم ، ولو لم يقل من السماء لشمل الطلب إعطاءهم مائدة من الأرض ولو بطريقة عادية ، فإن كل ما يعطى من الله تعالى يسمى إنزالا لتحقق معنى العلو المطلق غير المقيد بجهة من الجهات لله سبحانه فإنه هو العلي القاهر فوق عباده .
ثم وصف عيسى عليه السلام هذه المائدة بما أحب أن يستفاد من إنزالها فقال في وصفها «تكون لنا عيدا » أي عيدا خاصا بنا معشر المؤمنين دون غيرنا ، أو تكون كرامة ومتاعا لنا في عيدنا .ثم قال:«لأولنا وآخرنا » وهو بدل من قوله:«لنا » الذي ذكر أولا لإفادة الحصر والاختصاص ، أي عيدا لأول من آمن منا وآخر من آمن ، والمتبادر أنه أراد بأولهم من كان آمن عند ذلك الدعاء وبآخرهم من يؤمن بعد نزول المائدة ممن يشهد لهم من شهدها وغيرهم ، ويحتمل على بعد أن يراد أول جماعته الحاضرين معهم إيمانا وآخرهم ، وروي أن المعنى يأكل منها آخر القوم كما يأكل أولهم أو كافية للفريقين .
وكلمة العيد تستعمل بمعنى الفرح والسرور ، وبمعنى الموسم الديني أو المدني الذي يجتمع له الناس في يوم معين أو أيام معينة من السنة للعبادة أو لشيء آخر من أمور الدنيا ، ولذلك قال السدي في تفسير العبارة:أي نتخذ ذلك اليوم الذي نزلت فيه عيدا نعظمه نحن ومن بعدنا ، وقال سفيان الثوري:يعني يوما نصلي فيه .وقال قتادة:أرادوا أن يكون لعقبهم من بعدهم .وقال سلمان الفارسي رضي الله عنه عظة لنا ولمن بعدنا ، ويصح أن يسمى طعام العيد عيدا على سبيل المجاز كما أشرنا إليه آنفا وقوله:«وآية منك » معناه وتكون آية وعلامة منك على صحة نبوتي ودعوتي ، ولعل المراد بنص قوله:«منك » – مع العلم بأن كل شيء منه تعالى ولا سيما الآيات – النص على أن الآيات إنما تكون من الله وحده ، أو أن تكون المائدة من لدنه تعالى بغير واسطة منه عليه السلام تشبه السبب كالآيات السابقة .
ومما نقل عنه وعن نبينا عليهما الصلاة والسلام إطعام العدد الكثير من الطعام القليل بخلق الله الزيادة فيه ، وروي عن نبينا أيضا إسقاء العدد الكثير من الماء القليل إذ وضع يده فصار يزيد ويفور من بين أصابعه .فأمثال هذه الآيات – وإن كانت من الله ككل شيء – تحصل بما يشبه الأسباب ، وفيها مجال لاشتباه المرتاب ، لأن كل من يأخذ من ذلك الطعام أو الماء فإنما يأخذ من شيء كان موجودا وهو لم يشاهد حدوث الزيادة فيه .وينقل الناس مثل هذا عن غير الأنبياء من الصالحين كالسحرة والمشعوذين ، وقد كان معروفا في بني إسرائيل ، ولذلك وصف الحواريون المائدة بما وصفوها به ، وقال هو «وآية منك » لتوافق مطلوبهم فلا يقترحوا شيئا آخر ، وإنني أذكر حكايتين عن بعض المعاصرين توضح ما أريد:
حدثني الثقة أن بعض رجال العلم والدين عاد مريضا من الرجال المعتقدين المشهورين بالكرامات فأقام عنده في حجرة النوم ساعة وكان قد نقه ، ثم أراد الانصراف فآلى عليه أن يتعشى معه ، ثم دعى بالخوان فنصب ولم يوضع عليه شيء من الطعام ، فجلس إليه الشيخان وصار المزور يقترح على الزائر أن يذكر ما يشتهي من ألوان الطعام وكلما ذكر شيئا مد المزور صاحب الدار يده فأخرج صحنا من تحت كرسي أو أريكة بجانبه مملوءاً بذلك اللون وهو سخن يتصاعد بخاره ، حتى ذكر عدة ألوان لا تناسب بينها ولم تجر عادة البلد بالجمع بينها ، وأبعد من ذلك أن تكون طبخت ووضعت تحت ذلك الكرسي وبقيت على حرارتها كل تلك المدة .فأمثال هذه الحكاية يعدها بعض من ثبتت روايتها عنده من الخوارق ، ويعدها بعضهم من الشعوذة والحيل التي اكتشف مثلها وهو موضوع الحكاية الثانية:
حدثني شيخ من كبار شيوخ الطريق والمناصب العلمية بواقعة وقعت لوالده – وكان معتقدا محترما – مع رجل غريب جاء مدينتهم وظهر على يديه عدة غرائب عدت من الكرامات ، وقال:إن والده أخذ هذا الرجل مرة وطاف به في ضواحي البلد مدة طويلة انتهوا في آخرها إلى المقبرة التي دفن فيها أجدادهم فزاروا قبورهم واستراحوا هنالك وشكوا ما عرض لهم من الجوع بطول المشي ، فأظهر والد محدثي للشيخ الغريب أنه يمكنهم أن يستضيفوا أجداده السادة الكرام ، ثم نادى أحدهم واستجداه ودس يده في تراب قبره فأخرج منه صحفة فيها عدة مكرَّشات ( كروش غنم مطبوخة وهي محشوة بالرز واللحم والصنوبر ) ، فأكلوا منها فإذا هي حارة ، وقد استطابها الرجل الغريب جدا حتى توهم أنها ليست من طعام الدنيا .ولا أذكر أكان اختيار هذه الأكلة وإخراجها باقتراح الرجل نفسه أم باقتراح غيره وإنما أظن ظنا قويا أنها اقترحت .
قال محدثي:وسر هذه المسألة أن والدي أمر قبل خروجه بأن تطبخ عندنا هذه الكروش ويأخذها أحد الخدم أو المريدين ( الشك مني ) فيدفنها في ذلك القبر في صحفة مغطاة بحيث تبقى سخنة ولا يصيبها تراب ، وإنما فعل ذلك لاختبار الرجل وحمله إياه على مكاشفته بحقيقة ما يعمله من الغرائب في مقابلة إخباره إياه بسر هذه المسألة ، ولا أتذكر ما كان من أمرهما بعد ذلك فإنني سمعت هذه القصة في أوائل العهد بطلب العلم .
فأمثال هذه الوقائع التي يعهدها الناس في كل زمان ويعلمون أن منها ما هو حيل أو صناعة تتلقى بالتعليم والتمرين – هي التي حملت بعض الناس على الشك والارتياب في آيات الأنبياء ، وبعضهم على تسميتها سحرا مبينا ، وبعضهم على التثبت فيها للتفرقة بين الحق والباطل ، وهو ما طلبه الحواريون لأجل تحصيل العلم اليقيني الذي تطمئن به قلوبهم وتقوم به حجتهم على غيرهم ، على ما اخترناه مع الجمهور من صحة إيمانهم قبل طلب المائدة أو لأجل تحصيل اليقين في الإيمان بعد التسليم في الظاهر كما اختار الزمخشري وغيره ، ولهذه الحكمة جعل الله تعالى الآية الكبرى لرسالة خاتم رسله صلى الله عليه وسلم علمية حتى لا يبقى مجال لارتياب أحد من طلاب الحق المخلصين فيها .وهي إتيان رجل أمي عاش بين الأميين إلى سن الكهولة بكتاب فيه أعلى العلوم الإلهية والأدبية والاجتماعية والشرعية وأخبار الأمم والأنبياء السابقين الذين لم يقرأ هو ولا قومه عنهم شيئا وغير ذلك من أخبار الغيب التي ظهر صدقها في زمنه وبعد زمنه ، ببلاغة عجز البلغاء عن مثلها وأسلوب أشد إعجازا ، كما تقدم شرحه في تفسير سورة البقرة ..
وأما قوله عليه السلام:{ وارزقنا وأنت خير الرازقين ( 114 )} فمعناه وارزقنا منها أو من غيرها ما تتغذى به أجسامنا أيضا وأنت خير الرازقين ترزق من تشاء بحساب ، وترزق من تشاء بغير حساب .ومن محاسنه أنه أخر ذكر فائدة المائدة المادية عن ذكر فائدتها الدينية الروحية ، أو معناها وارزقنا الشكر عليها ، وربما يقويه إنذار الله من يكفر بعد إنزالها إذ قال:{ قال الله إني منزلها عليكم} .